[شرح حديث ابن عمر في تلبية النبي من عند مسجد ذي الحليفة]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله -وهو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما- أنه سمع أباه -أي: عبد الله بن عمر - رضي الله عنه يقول: (بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد يعني: ذا الحليفة)].
عبد الله بن عمر أكثر الصحابة التزاماً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يقول: بيداؤكم هذه أنتم تكذبون على رسول الله عليه الصلاة والسلام فيها، وتزعمون أنه أحرم منها ولم يحرم منها، إنما أحرم من أمام باب مسجد ذي الحليفة، والبيداء: هي الصحراء وهي الأرض القحل وهي المكان المتسع العظيم كان قبل المسجد مباشرة.
فأهل المدينة في زمن التابعين كانوا يذهبون إلى هذه البيداء ويحرمون منها وينطلقون بدوابهم، ويزعمون أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام كانوا يحرمون من هذه البيداء التي هي بجوار المسجد مباشرة، فـ عبد الله بن عمر أطلق القول بأنهم قد كذبوا على النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه ما أحرم من هذه البيداء ولا من هذه الأرض القاحلة، وإنما أحرم من باب المسجد وبينهما مسافة يسيرة جداً.
هذه البيداء الآن دخلت في توسعة هذا المسجد، ولكن على أية حال لابد من التزام المكان؛ لأنك لا تدري كما قلنا من قبل في الدرس الماضي: إن بين عرفة وبين مزدلفة علامة وهي لوحة قد وضعها المتخصصون ليبينوا أن من عبر هذه اللافتة يكون قد دخل في أرض عرفة وصح وقوفه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وعرفة كلها موقف).
وأما من بات خلف أو قبل هذه اللافتة فلم يصح له وقوف بعرفة بل لا يصح له حج؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) يعني: أعظم ركن من أركان الحج هو الوقوف بعرفة، فإن أتيت به جبر ما دونه بالدم، وإن لم تأت بهذا الركن على جهة الخصوص لا يجبر بدم قط.
وها نحن منذ قرابة سبع سنوات لما بدأنا في هذا الكتاب المبارك قلنا: إن الكذب عند أهل السنة والجماعة له مدلول بخلاف المعتزلة.
الكذب: هو إخراج الكلام على غير حقيقته، سواء كان في ذلك متعمداً أو مخطئاً أو ساهياً أو ناسياً، وهذا مصطلح أهل السنة والجماعة، أما عند المعتزلة فإنهم قالوا: الكذب لا يكون إلا إذا تعمده صاحبه، ولكن هذا التعريف عند أهل السنة والجماعة شرط لازم للإثم لا لبيان الكذب، يعني: لا يأثم الكاذب عند الله عز وجل إلا إذا تعمد الكذب، ولكن الكاذب ساهياً أو ناسياً أو مخطئاً لا إثم عليه، كمن حلف أنه فعل الشيء الفلاني ثم أيقن بعد أن أقسم أنه لم يفعله، فلا إثم عليه، بخلاف الذي يذكر أنه لم يفعل وأقسم أنه فعل متعمداً وهو يعلم أن الأمر على غير الحقيقة، فهذا بلا شك هو اليمين الغموس الذي ينغمس به صاحبه في نار جهنم عياذاً بالله.
فقال عبد الله بن عمر: هذه البيداء التي تحرمون منها يا أهل المدينة أنتم ومن مر بكم، وتزعمون أن النبي عليه الصلاة والسلام أحرم منها ليس الأمر كما تقولون، وإنما هذا كذب ولا يلزم منه أنهم تعمدوا ذلك، بل يمكن أن يكون ذلك صدر منهم على سبيل الخطأ أو السهو أو النسيان، قال: (ما أهل -أي: ما أحرم- رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) يعني: من عند باب مسجد ذي الحليفة، ثم صلى ركعتين وقيل: إنها صلاة الصبح، ثم انطلق من المسجد وركب دابته القصواء، وكانت تناخ أمام باب المسجد، فلما قامت وانبعثت به ناقته قال: (لبيك اللهم عمرة وحجاً).
وفي الدرس الماضي قلنا: يسن للمعتمر ألا يدخل في الإحرام، وبعض الناس يتصور أن الإحرام: هو لبس الإزار والرداء، لكن الإحرام: هو عقد النية بالدخول في النسك من الميقات، فلو لبست ثياب النسك الإزار والرداء من بيتك أو في المطار أو في الطائرة كل ذلك قبل أن تأتي إلى الميقات فإنك لا تسمى محرماً، وبالتالي يحل لك كل ما يحرم على المحرم قبل أن تبلغ الميقات، فلو أنك ذهبت من بيتك ودخلت في مطار القاهرة، ثم أردت أن تتطيب فلك ذلك، ولو أردت أن تخلع ملابسك وتلبس الملابس العادية فلك ذلك، ولو أردت أن تجامع امرأتك فلك ذلك؛ لأنك في حقيقة الأمر لست محرماً، وإنما أنت لبست الملابس التي ستحرم وتهل فيها ولا يكون ذلك إلا ببلوغك إلى الميقات، أما قبل ذلك فيجوز لك ما لا يجوز لك بعد إحرامك.
وفي الطائرة ينبهون ويقولون: بقي ربع ساعة على وصولنا إلى الميقات، فتجهز قبل فوات الربع الساعة بدقيقتين تبدأ تقول: لبيك اللهم حجاً وعمرة، أو عمرة، أو حجاً، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.
والطائرة تسير بسرعة ١٠٠٠ كيلو في الساعة، فأول ما ينبه عليك تنتبه جداً وتظل تنظر في الساعة حتى لا تسرح ويضيع عليك الأمر، فافرض أنك سرحت أو سهيت أو نسيت ثم فوجئت بأن الطائرة نازلة إلى مط