[الجانب الخلقي للإمام النووي رحمه الله]
وأما الجانب الخلقي من شخصيته عليه رحمة الله: فقد كان على جانب عظيم من التقوى والإنابة، فهو كما أشرنا منذ نعومة أظفاره كان يستشعر خشية الله فينفر عن اللهو وينصرف عن اللغو، ويملأ فراغه بقراءة القرآن والأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله تعالى، وكان رأساً في الزهد قدوة في الورع، يتقلل من الدنيا ويعرض عن مفاتنها ومتعها، ولا يتناول منها إلا ما يقيم أوده، ويعينه على القيام بما هو آخذ بسبيله.
قال الإمام الذهبي: ولي الإمام النووي دار الحديث، وكان لا يتناول من معلومها شيئاً، يعني: الجعل الذي كانت تنفقه المدرسة على أبنائها وطلابها وعلمائها لم يكن يتناول منه شيئاً، بل يتقنع بالقليل مما يبعث به إليه أبوه، كان أبوه يبعث إليه بالجرايات -أي: الطعام والشراب الذي يأكله- وكانت أمه ترسل إليه كل عام قميصاً أو قميصين يلبسهما، فما كان يلبس من أحد، ولا يأكل من أحد، وما كان يقبل هدية طالب من الطلاب.
وهذه سيرة كثير من أهل العلم السالكين، أنهم ما كانوا يقبلون هدايا تلاميذهم الذين ليس بينهم وبين بعض تبادل هدايا، أي: لو أن طالباً يتبادل مع شيخه الهدايا فلا بأس أن يأخذ منه الشيخ، وأما إذا كانت الهدية مقدمة من التلميذ، وهذا الشيخ لا يعرف التلميذ إلا أنه تلميذه في الحلقة، وليس بينهم من الود ما يسمح له بقبول الهدية فإن الشيخ كان يمتنع عن قبول الهدية التي بهذا الوصف.
قال: وكان لا يأخذ من أحد شيئاً، ولا يقبل إلا ممن تحقق دينه ومعرفته، ولا له به علاقة من إقراء وانتفاع به.
ويقول أيضاً الإمام الذهبي عنه: كان عديم الميرة -أي: الطعام والشراب- والرفاهية والتنعم، مع التقوى والقناعة والورع الثخين، والمراقبة لله تعالى في السر والعلانية، وترك رعونات النفس من ثياب حسنة، وأكل طيب، وتجمل في هيئة، بل طعامه جلف الخبز بأيسر إدام، ولباسه ثوب خام وشيخنانية لطيفة.
هذا ما كان يأخذه لنفسه، ولكنه عند الفتوى وعند شرح الأحاديث يكون له موقف آخر، فإن هذا جانب الورع، والورع لا يُجبر عليه العبد، وإنما يُنصح به مجرد نصيحة، وله بعد ذلك أن يأخذ به أو لا يأخذ كالإحسان تماماً، فإنك لا تستطيع أن تحمل عبداً على الإحسان، ولكنك تستطيع أن تحمله على الإيمان وعلى الإسلام، وإلا فله حكم آخر في الشرع، أما الإحسان فهو المراقبة بينك وبين الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يحملك عليه إلا الله عز وجل يرزقك إياه، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإحسان والورع! وأما الورع فكان ديدن الإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى، أما عند شرحه للأحاديث فهذا شيء آخر يتعلق بجميع المسلمين، فإنه عند الفتوى والتحقق والإفتاء لا يجوز لي أن أحمل الناس على ما أنا عليه، فكذلك كان الإمام يفعل.
قال: ولكنه في باب الفتيا كان ينهج منهج القصد والاعتدال، فقد علّق على حديث عائشة رضي الله عنها المخرّج عند مسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل)، يقول: فيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة لا سيما إذا حصل اتفاقاً.
أي: إذا لم يحرص عليه العبد، ولكنه قُدّم إليه دون طلب.
قال: وكان رحمه الله تعالى يسدي النصح للعظماء والكبار بأسلوب تلمح فيه عزة المؤمن ونزاهة القصد وكمال الشفقة للمنصوح، وله في ذلك مواقف رائعة مدونة في الكتب التي أُلفت في مناقبه تستوجب الإكبار والاعتداد، وتصلح أن تكون مثلاً أعلى للاحتذاء.