[حكم أخذ المكوس وبيان عظيم شأنها]
قال: (قوله: عليه الصلاة والسلام: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له) فيه أن المكس من أقبح المعاصي) هذا حكم جديد، وصاحب المكس عموماً هو آخذ أموال الناس بغير حق، وخصوصاً جامع الضرائب والجمارك، صاحب المكس هو الذي يأخذ أموال الناس ظلماً وعدواناً تحت باب الضرائب أو الجمارك على الحدود وغيرها، حتى تعلموا أن هذا العمل أشد في الحرمة عند الله من الزنا، قال صلى الله عليه وسلم عن هذه المرأة: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس)، فصاحب المكس مطالب أمام الله عز وجل بأن يتوب توبة أعظم من توبة الزانية أو أعظم من توبة الزاني؛ وذلك لأنه يأخذ أموال الناس بغير حق، أما لو أخذ أموال الناس بحق فلا يدخل تحت هذا، فالذي يرسل إلى الناس ليجمع زكاة أموالهم يحرم عليه أن يأخذ أحسن أموالهم، ولا يأخذ من أموالهم إلا أواسط الأموال لا الدرنة ولا القرناء ولا العجفاء ولا الكسيرة ولا الكسيحة، كما أنه لا يأخذ أفاضل الأموال، وهذا طبعاً في الماشية والزرع وغير ذلك.
أما في الذهب والفضة فإنه يأخذ من أي الأموال شاء؛ لأنه لا فرق في الذهب بين بعضه البعض ولا في الفضة بين بعضها البعض كذلك.
إذاً: صاحب المكس هو جامع الضرائب، وعمله حرام، ودليلنا في الحرمة هو هذا الحديث وعموم الأحاديث التي وردت في تحريم أخذ أموال الناس بالباطل، لكن هذا الحديث أصرح حديث في حرمة الجمارك وحرمة الضرائب، وبالتالي الأسئلة تكثر، ومرد هذه الأسئلة إلى سؤال واحد: هل يجوز التهرب من الضرائب والجمارك؟ أنا أقول بالجواز قولاً واحداً، فإذا استطعت من غير مضرة تنزل بك، بل كدت أن أصل بالحكم إلى وجوب الهروب من الضرائب والجمارك؛ لأن هذا مالي وأنا لا آذن لأحد قط أن يأخذه مني، عندما آتي بغسالة أو ثلاجة أو كناسة من الخارج فهو مالي قد اشتريت به حلالاً سلعة من بلد معين، أريد إدخالها للانتفاع بها في بلدي، أو بيعها والاتجار فيها، فكيف يؤخذ مني مال فوق ثمن هذه السلعة؟ كما أن هذا ضرب للاقتصاد المصري أو غيره أياً كان هذا الاقتصاد؛ لأني لو أتيت بالسلعة قيمتها (١٠٠) جنيه لبعتها بـ (١١٠)، لكن لو أخذ مني جمارك بعتها بـ (٢٠٠) فهذا تخريب للاقتصاد وليس فيه أدنى منفعة للبلد، فالتجارة لا تروج إلا إذا رفعت الحكومة أيديها عن الناس وعن أبنائها وعن مواطنيها يتاجرون حيث شاءوا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض).
فلا يحل للحكومة التدخل إلا إذا كنت أتاجر في سلعة حرمها الشرع، أما التسعير فليس لها علاقة بذلك؛ ولذلك لما قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! سعر لنا.
قال: إن الله هو المسعر)، (سعر لنا) يعني: حدد لنا السعر.
قال: (إن الله هو المسعر) وليس هذا من أسماء الله، ولكن التسعير يقع بقدر الله، هذا معنى الحديث: (إن الله هو المسعر) أي: أن التسعير يقع بقدر الله عز وجل؛ ولذلك لا يزال العامة قبل الخاصة يحفظون أن التجارة عرض وطلب.
والذي يعمل في التموين ويجلس في المسجد معنا ويقول: الحمد لله، أنا ليس لي علاقة بالحرام، إنما أنا أجمع ضرائب، نقول له: عملك أنت كذلك فيه شيء من الحرمة وشيء كبير وليس بسيطاً، فأصل عملك في التموين الحل؛ لأن موظف التموين ما هو إلا رقيب على جودة السلعة من رداءتها، لكن قيامك كل شهر على هذه المحلات اكتسبت أنت بها الحرمة، فيصير أصل العمل حلالاً، وأنت جعلته بدل الحل حراماً؛ فأنت الآن لا يضرك أن تكون البضاعة كاسدة أو رابحة.
هذا أمر لا يعنيك، إنما الذي يعنيك أن تأخذ مال هذا الرجل حراماً فتأكله، فهذا أمر مدفوع الثمن، وأنت لا تعيب عليه شيئاً من ذلك، فإذا ذهب هذا الموظف الذي يعمل في وزارة التموين إلى المحلات، ليأخذ المعلوم الشهري فليعلم أن هذا المعلوم إنما هو نار الله الموقدة يأكلها في بطنه، فلا هنيئاً ولا مريئاً، وليعلم أن صاحب هذا المال وإن هش وبش في وجهه هو والله غير راض عن هذا، وأعظم دليل على ذلك أنه لو أمن جانبك ما أعطاك شيئاً.
وأعجب من ذلك: أنك تجد موظف التموين يشرط على أصحاب المحلات والأعمال والتجارات مبلغاً معلوماً في كل شهر، وهذا مبلغ نقدي خلافاً للمبلغ العيني، فمن الناس من يكون معه دكان فيه بضاعة قيمتها عشرة آلاف جنيه، وهو يكسب في الشهر مثلاً خمسمائة جنيه، يأكل منها ويشرب، فإذا به يطالب بأنه يدفع نصف المبلغ لموظف التموين.
تصور أن موظفاً هذا حاله قد شقي عمره السابق كله لأنه وأباه وأمه وجده لا يملكون قوت يومهم، فتاريخهم الأسود طويل لا نهاية له، وموظف التموين في غمضة عين يركب أضخم السيارات، ويسكن في أحسن العمارات، وينتقل في معيشته انتقالة يلحظها القاصي والداني، ولو أنه طلب حلالاً وترك حراماً لكانت سيرته امتداداً لسيرة أبيه وجده.
تصور موظف ينزل في حي -مثلاً- من الأحياء الشعبية يمر على أربعمائة محل كل شهر، يأخذ من كل محل (٢٥٠) جنيهاً، اضرب أربعمائة محل في عشرة جنيهات، وأظن هذا أقل الف