للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[باب في الوقوف وقوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)]

الباب الحادي والعشرون: باب في الوقوف وقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:١٩٩].

قال: [قالت عائشة رضي الله عنها: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة]، أي: لم يكونوا يقفون بعرفة، وهذا في الجاهلية قبل الإسلام.

قال: [قالت: وكانوا يسمون الحمس]، أي: من شدة تحمسهم، وكانوا يعتبرون أنهم أنجب العرب وأفضلهم، وأولى بالبيت الحرام من غيرهم.

والمزدلفة حرم، وعرفة ليست بحرم، وإنما هي حل، فكانوا يقولون: نحن أولى ببيت الله من بقية العرب، لا يسعنا أن نخرج من دائرة الحرم.

ومن أراد من أهل مكة أن يعتمر يلزمه أن يذهب إلى الحل ليحرم من هناك، كما أهلت عائشة من التنعيم؛ لأن التنعيم من الحل وليس من الحرم، ويجوز الإحرام من عرفة، لأن عرفة حل وليست حرماً، وهي من جهة المشرق، ونمرة حل من جهة المغرب، فمن أراد أن يهل بعمرة من أهل مكة وهو بعرفة فله ذلك.

وقريش كانت تعتبر أنها أولى الناس ببيت الله الحرام وبالحرم، وكان أهلها يقولون: إذا خرجت العرب إلى الحل -أي: إلى عرفة- فإننا لا نخرج؛ لأننا أولى بالحرم منهم، ولا يجوز لنا أن نخرج عن دائرة الحرم، فكانوا يقفون في حجهم في الجاهلية في مزدلفة؛ لأن المزدلفة حرم.

وأما العرب فقد أجمعوا على وجوب الوقوف بعرفة قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت قريش ومن دان دينها يقفون بمزدلفة ويسمون أنفسهم الحمس، فلما جاء الإسلام أمر الله عز وجل نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها، ثم يفيض منها في قوله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:١٩٩] أي: ثم انزلوا، وربنا سبحانه وتعالى اختار هذا اللفظ {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة:١٩٩]، ولم يقل: ثم انزلوا، أو ثم اصدروا، وإنما قال: {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة:١٩٩]، فشبه ذلك بفيضان الماء وسيلانه الجاري الذي لا يمكن الوقوف في وجهه أو صده؛ لأن العرب كانوا مجمعين على الوقوف بعرفة إلا قريشاً، وقريش إلى العرب نسبة قليلة جداً.

فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الإسلام أمره ربه أن يفيض من حيث أفاض الناس، أي: من عرفات.

والمقصود بالناس: العرب، فأمر الله عز وجل نبيه أن يخالف قومه وعشيرته وأهله في وقوفهم بمزدلفة، وينطلق مباشرة إلى عرفة، ثم إذا دخل الليل وغربت الشمس من اليوم التاسع أن يفيض مع الناس، يعني: أن ينزل من عرفة إلى المزدلفة، والذي ينطلق من منى في يوم عرفة بعد شروق الشمس إلى عرفات يمر بالمزدلفة أو بمحاذاتها على حسب الطريق الذي يسلكه؛ لأن الطرق ما بين منى إلى عرفة ومن عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى طرق كثيرة، فهناك طرق تمر بأرض المزدلفة، وطرق تحاذيها من الخارج.

والنبي عليه الصلاة والسلام بات بمنى في يوم التروية، ثم صلى الفجر وجلس في مصلاه حتى أشرقت الشمس، ثم انطلق عليه الصلاة والسلام وقريش كلها تنظر إليه وتحسب أنه سينزل في المزدلفة؛ لأنها موقف قومه، وظنوا أن محمداً لن يخالفهم في ذلك، وأن العرب ستحرج إحراجاً شديداً في هذا اليوم، فمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمزدلفة ولم يقف فيها ووقف بعرفة، ثم نزل من آخر يومه فصلى المغرب والعشاء جمع تأخير في المزدلفة عند المشعر الحرام، ومزدلفة كلها موقف، وإن كان الأولى النزول عند المشعر الحرام، ويصلي فيها المغرب والعشاء جمع تأخير.

قال: [قالت: وكان سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله عز وجل نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:١٩٩]].

قال: [وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس]، يعني: إلا قريشاً، فقد كانوا يطوفون وعليهم ملابسهم.

قال: [إلا الحمس -والحمس قريش وما ولدت- كانوا يطوفون عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء].

وقريش كان لها فضل عظيم جداً في الجاهلية في الحفاظ على كرامة البيت وشرفه، وكانوا يعطون من ملابسهم للعرب الذين يأتون يطوفون بالبيت عراة، فكان الرجل من قريش أو من الحمس يعطي الرجل من العرب، والمرأة من قريش تعطي المرأة من العرب، حتى يطوف الجميع مستورين.

قال: وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة -أي: يقفون بها- وكان الناس كلهم يبلغون عرفات -أي: العرب-.

قال: [قال هشام: فحدثني أبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمس هم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:١٩٩].

قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم.

فلما نزلت: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:١٩٩]، رجعوا إلى عرفات]، أي: رجع الحمس وقريش وأفاضوا مع الناس من عرفات.