[محبة الله وقبوله لعذر العبد]
قوله: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل)، فإذا اعتذر إليك إنسان أخطأ في حقك، فإنك وإن قبلت العذر لكن هذا العذر لا يشفي غليلك في الغالب؛ لأنك تريد الانتقام -وربما جبلت عليه- ولو باللوم والعتب الشديد والتوبيخ، وهذا أقل العفو، لكن تصور أن الذي أساء إليك لقيك فبادرك بالاعتذار، فقد قطع لسانك كما قطع يدك من باب أولى؛ لأنك إذا كنت لا تتناوله بلسانك فمن باب أولى ألا تتناوله بيدك، وحينئذ العذر مبغض إلى العبد، وربما قد تحبه، لكن هذا لا يشفي الغليل -ولله المثل الأعلى- فالله تعالى يحب العذر، والعذر هو التوبة، ولذلك أخرجه مسلم في كتاب التوبة.
قال: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)، أي: إذا لم يكن العذر محبباً إلى الله عز وجل، وبلوغ الحجة وقيامها على العباد، فما الفائدة من إرسال الأنبياء والمرسلين، وإنزال الكتب الهادية البشيرة مع هؤلاء الأنبياء والمرسلين؟ إن الله عز وجل بإنزاله الكتب وإرساله الرسل قد أقام الحجة على جميع العباد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، والله تعالى غني عن عذاب عباده، ولذلك لا يعذبهم إلا بعد قيام الحجة عليهم، وأخذ العذر عنهم ولهم، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام (إذا بلغ العبد أربعين عاماً فقد أعذر الله له) إذا بلغ العبد، مع أنه مكلف من سن العاشرة أو الثانية عشر، ومحاسب على أعماله الحسنة والسيئة، لكن الله تعالى كأنه أعطاه فرصة لأن يتوب، وأن يراجع نفسه، وأن يقف مع نفسه وقفة جادة صادقة حتى بلغ سنة أربعين سنة، والحديث في مسلم.
ومن العجب أن سن الأربعين له اهتمام خاص في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:١٥]، وورد أهمية هذا السن في كثير من الأحاديث والآيات، وقد قيل: إن كل نبي بعثه الله عز وجل في هذه السن، أي: في سن الأربعين، ولا أقصد جميع الأنبياء، لكن غالب الأنبياء هكذا، وإلا فأنتم تعلمون أن بعض الأنبياء بعثوا قبل ذلك وهم صغار، مثل: سيدنا عيسى، وسيدنا يحيى، وسيدنا سليمان.
نقل الإمام النووي عن القاضي فيقول: يحتمل أن المراد بالاعتذار، أي: اعتذار العباد إليه من تقصيرهم وتوبتهم من معاصيهم، فيغفر الله لهم، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:٢٥].
نفس الكلام الذي قلناه في بسط اليد نقوله هنا في غيرة الله عز وجل.
قال: [حدثنا عمرو الناقد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية، عن حجاج بن أبي عثمان قال: قال يحيى -وهو ابن أبي كثير -: وحدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه)]، أي: ما حرم الله عليه.
وعلى كل فالله تعالى أثبت لنفسه غيرة كما أثبت لعبده المؤمن غيرة، لكن شتان بين غيرة الله تعالى وبين غيرة عباده المؤمنين.
قال: [قال يحيى بن أبي كثير: وحدثني أبو سلمة، أن عروة بن الزبير حدثه، أن أسماء بنت أبي بكر حدثته، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس شيء أغير من الله عز وجل).
وفي رواية لها قالت: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا شيء أغير من الله عز وجل)].
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يغار، والله أشد غيرة)].
وهذا يدل على أن الغيرة من شعب الإيمان، والحديث الذي معنا قد أثبت أن العبد المؤمن يغار، والعبد الذي لا يغار لا يكون مؤمناً كامل الإيمان، بل لا يكون رجلاً قط، إنما الرجل هو القائم على طاعة الله عز وجل، هذا هو الرجل حقيقة.