[ذكر أمر عبد الله بن حذافة مع سريته حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم عليها وقصة أسر الروم له]
[حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار] وكلاهما على فرسي رهان، فإن محمد بن بشار -أي: بندار - وابن المثنى العنزي كلاهما كان على خط من العلم والعبادة والتقوى والسن، والعجيب أنهما ولدا في عام واحد وماتا في عام واحد.
قال: [واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن زبيد -وهو ابن الحارث اليامي أبو عبد الرحمن الكوفي - عن سعد بن عبيدة -وهو السلمي الكوفي - عن أبي عبد الرحمن وهو أبو عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب عن علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً)] قيل: هذا الرجل هو عبد الله بن حذافة السهمي الذي نزل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:٥٩] وقيل: غيره.
ورجّح النووي: أنه غيره؛ ويذكر أن عبد الله بن حذافة السهمي في سريته كان رجلاً ظريفاً، والظريف من الرجال هو صاحب النكتة والفكاهة، وهو من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه كان ظريفاً مازحاً، فحينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم على تلك السرية قال لقومه: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا حطباً وقال لهم: أججوا فيه ناراً.
فأججوا فيه ناراً، قال: ألقوا بأنفسكم فيها ألست أميركم؟ فنظر بعضهم إلى بعض، وقام بعضهم فتهيأ للوقوع فيها، وأما البعض الآخر فقال: يا عبد الله! إنا قد فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنحن لم نسلم إلا فراراً من النار، فتأتي أنت الآن وتأمرنا بالوقوع في النار! وقام أناس آخرون وتهيئوا للنزول فيها، فقال عبد الله بن حذافة: على رسلكم انتظروا وليحذر أحدكم أن يقع في النار، إني أُمازحكم.
وقد وردت روايات: أنه غضب غضباً شديداً فأمرهم بذلك، فلما تهيئوا للنزول في النار سكن عنه الغضب فنهاهم عن النزول في النار، فلما رجعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: لقد كان من أمر عبد الله بن حذافة أن فعل كذا وكذا، قال: [(أما إنهم لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، إنما الطاعة في المعروف ولا طاعة في معصية الله).
إذاً: فليس كل أمير يُطاع إلا إذا كان في طاعة الله عز وجل، وعبد الله بن حذافة السهمي وردت عنه هذه القصة من ثلاث طرق، وفي كل طريق منها علّة، فالبعض يثبت الرواية والبعض ينكرها، ويترجّح لدي أنها ثابتة واشتهرت في كتب السير وتراجم الأصحاب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمّره على سرية ناحية الروم، فأُسر عبد الله بن حذافة في ثلاثمائة نفر من أصحابه، فجيء بـ عبد الله بن حذافة السهمي إلى أمير الروم فقال له الأمير: قبّل رأسي وأنا أفُك أسرك.
قال: لا.
فحاول بكل وسيلة أن يقبّل رأسه فأبى، فأمر الرومي بماء يغلي، فجيء به فوضع واحداً من أصحاب السهمي فيها حتى ذاب، وعبد الله بن حذافة السهمي ينظر إليه، ثم جيء بالثاني والثالث وهكذا والسهمي ينظر إلى جنده الذين كانوا معه، وانصرف الأمير الرومي، فحينما رأى السهمي أن أصحابه يُلقون في هذا الماء المغلي حتى يذوبوا في هذا الماء بكى، فاستبشر جند الروم بذلك، وذهبوا إلى الأمير وقالوا: أبشر أيها الأمير! لقد بكى عبد الله بن حذافة كأنه رق، فجيء به إلى هذا الأمير، فقال له الأمير: مالك؟ فقال: وددت أن لي أرواحاً بعدد شعر رأسي، فإذا وضعت في هذا القدر وذبت فيه ذلك الذوبان رد الله تعالى إلي روحي فقُتلت قتلة ثانية وثالثة ورابعة بعدد شعر رأسي، فاغتاظ الرومي جداً.
قال: تقبّل رأسي وأفُك أسرك وأسر مائة من أصحابك.
قال: بل تفك أسري وأسر جميع المسلمين عندك.
قال: لك ذلك.
فقام إليه عبد الله بن حذافة وقبّل رأسه وأخذ أصحابه وانطلق إلى المدينة إلى عمر، وكان الخبر قد طار إلى عمر بن الخطاب، فاستقبله عمر على باب المدينة وقال: حق على كل مسلم أن يقبّل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أولكم، فقام عمر وقبّل رأسه.
وهذا عمل بطولي رائع جداً، قام وقبّل رأس كلب من الكلاب، ولا مشكلة حينئذ إذا كان هذا ثمن فكاك (٣٠٠) رقبة مؤمنة، فإن ذلك من باب المصلحة العامة؛ ولذلك أقره عمر ولم يُعلم لـ عمر مخالف في ذلك، مما دل على مشروعية ذلك ما دام في الصالح العام.