للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تردد كعب بن مالك بين شهود غزوة تبوك وعدم شهودها]

قال: [(وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة)].

يعني: قصتي مع النبي عليه الصلاة والسلام: أني لم أكن مستعداً للقتال في يوم من الأيام، ولا في غزوة من الغزوات كاستعدادي في هذه الغزوة، فهو قد جمع الأسباب كلها في هذه الغزوة: فلم يكن فقيراً، ولا محتاجاً، وكان يملك الظهر، وغير ذلك، ولم يكن له عذر في التخلف، ومع هذا تخلف، فيقول: كانت بليتي أني تخلفت بغير عذر.

قال: [(والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة)].

يعني: لم يكن عنده فرسان قط في حياته إلا في هذه الغزوة، أي: كانت الحجة قائمة عليه؛ لأن الفرس الواحد يكفي للغزو، ومع هذا فقد كان عنده فرسان، فالحجة قائمة عليه من أوسع الأبواب.

وفي هذا جواز القسم بغير استحلال؛ لتأكيد الأمر، وإن لم يكن قد طلب ذلك منه.

قال: [(فغزاها الرسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد)].

يعني: أن هذه الغزوة كانت في الصيف.

قال: [(واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً)].

المفازة: هي الأرض القفراء الصحراء البعيدة السفر.

قال: (واستقبل سفراً بعيداً).

لأنه سينطلق إلى تبوك في الشام.

قال: [(واستقبل عدواً كثيراً)].

أي: والعدو كثير العدد، والعدة.

قال: [(فجلا للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أهبة غزوهم)].

(جلا) بمعنى: كشف لهم الأمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد عود أصحابه غير ذلك، فكان إذا أراد أن يغزو مكاناً قريباً من جهة الغرب عرض قبل ذلك بيوم أو يومين أنه سيغزو جهة الشرق، أو يشير إلى عكس المكان الذي ينوي غزوه بعد يوم أو يومين؛ حتى لا يعرف الخبر، ولا ينقل الجواسيس خبرهم إلى المعنيين، وهذا مأمون في جانب السفر الطويل، وهو يحتاج إلى إعداد عدة أكثر من السفر القصير، فالمرء يستطيع أن يصبر على جوعه وعطشه يوماً أو يومين، لكنه لا يستطيع أن يصبر على جوعه وعطشه شهراً أو شهرين؛ ولذلك جلا لهم النبي عليه الصلاة والسلام الأمر، فقال: إنا سنلقى المشركين والنصارى في تبوك، ولم يعرض في هذه المرة؛ وذلك لأمن الخوف، وأمن انتقال وانتشار الأخبار عن طريق الجواسيس وغير ذلك، والعلة: (ليتأهبوا أهبة غزوهم) أي: ليستعدوا ويأخذوا الزاد والعتاد والعدة لهذا السفر الطويل.

قال: [(فأخبرهم بوجههم الذي يريد)].

يعني: أخبرهم صراحة وحقيقة بالمكان الذي يريد أن يذهب إليه.

قال: [(والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ)].

فقد نادى في المسلمين: إننا سنغزو تبوك، وسيكون انطلاق السفر من هذا المكان، أي: من المسجد النبوي، في اليوم الفلاني، ومن وجد في نفسه قوة، وعلم أن القتال تعين عليه فليلحق بنا، أو فليأتنا إلى هذا المكان، ولم يكن هناك كتاب في غزوة تبوك يكتب فيه أسماء المجاهدين.

[قال كعب: (فقل رجل يريد أن يتغيب، يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل, وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعر)].

أي: أميل.

فالنبي عليه الصلاة والسلام خرج من المدينة في وقت طيب الثمار وقطفها، فمالت نفس كعب إلى التخلف عن الغزوة؛ لأجل جمع الثمار.

قال: [(فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت)].

وهذا هو عمل النفس اللوامة، فهو يتخلف لشهوة، لكن نفسه المؤمنة الطيبة تلومه على ذلك، ويقول لنفسه: وإن التمست لنفسك يا كعب! المعاذير فإنك في حقيقة أمرك لو أردت الغزو لفعلت، فهو يقيم الحجة بنفسه على نفسه.

قال: (إذا أردت ذلك).

فقد كان عنده الزاد والراحلة، ولا يمنعه من ذلك شيء.

قال: [(فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد)].

يعني: فهو تحدثه نفسه بالغزو، فيذهب يجهز نفسه ليذهب معهم، ثم يقوم الشيطان بتثبيطه، فيذكره بالثمار فيرجع، وهذا يتكرر منه مراراً حتى جد المسلمون بالذهاب إلى تبوك.

قال: [(فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه)].

أي: في وقت الغداة بعد صلاة الفجر.

قال: [(ولم أقض من جهازي شيئاً)].

يعني: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وأنا لم أجهز نفسي.

قال: [(ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً, فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو)].

أي: حتى أوشك المسلمون أن يدخلوا مع عدوهم في القتال.

قال: [(فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت)].

فصاحب المعصية لا يزال يشعر بذل المعصية في قلبه، خاصة إذا كان عنده وازع إيماني، وحظ من يقين، وأما الفاجر الجر