[مفارقة أهل المعاصي والمواضع التي وقعت فيها المعاصي]
أما قوله: (انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء).
قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب؛ لحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام (لما نزل في واد هو وأصحابه قال: من يرقب لنا الفجر؟ قال بلال: أنا يا رسول الله! فنام بلال، فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد طلعت الشمس، فقال: أين بلال؟ قال: أنا يا رسول الله! فقال: ما الذي أخذك؟ قال: الذي أخذكم يا رسول الله! -يعني: النوم- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: انطلقوا من هذا الوادي فإن به شيطاناً، فلما صعد إلى الأرض المستوية أمر بلالاً فأذن، وتوضئوا فصلوا السنة، ثم صلوا الصبح جماعة)، وهذا بعد طلوع الشمس، وقد حدث هذا ثلاث مرات للنبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه.
فقال: (وفي هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك)، الأخدان: هم الأقران أو الرفقة الذين هم معه، فمن تاب فعليه أن يترك الرفقة القديمة رفقة السوء، ويدخل المسجد، ويكثر من قراءة القرآن، والذكر، والتسبيح، وطلب العلم.
قال: (في هذا استحباب مفارقة المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم -أي: على معاصيهم- وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين الأتقياء، ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته).
ومن يعمل بكلام أهل العلم فسوف ينجو من شرور وفتن كثيرة جداً.
ورب واحد يتوب ويأتي المسجد فيرى المجتمع غريباً عليه، وينظر لأخيه في البيت أول ما يلقاه حليق، فيعبس في وجه، ويمكن أن يكون هو أفضل منه، فقد تكون عنده مؤهلات أخرى إيمانيه وصلة بالله أحسن منه.
وآخر يبحث عن جزمته في فناء المسجد فإذا لم يجدها قال: هذه آخر مرة أدخل المسجد، وذلك بسبب أخ بسوء خلقه، وقصور فكره صده عن سبيل الله عز وجل، وهناك مكاسب سبقنا إليها غيرنا من الجماعات العاملة على الساحة من صدق الخلق وغيرها، فلماذا لا يكون في ذهنك: أن كل من تقابله فإنك تدعوه إلى الله؟ أليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب من أبواب الجنة؟ فلماذا تركته؟ فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما كان يفرط في باب قط، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من منكم تصدق اليوم؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! قال: من منكم عاد اليوم مريضاً؟ فقال: أنا يا رسول الله، قال: من منكم فعل وفعل، وكل سؤال يجيب عنه أبو بكر بقوله: أنا يا رسول الله! قال: لا عليك أن تدخل من أبواب الجنة كلها).
يعني: لا يمنعك أن تدخل من جميع أبواب الجنة؛ لأنك قد أتيت من الأعمال الصالحة ما يؤهلك للدخول من جميع الأبواب.
وقد سمعت مرة واعظاً وقد سأله سائل فقال له: كيف يدخل أبو بكر رضي الله عنه من أبواب الجنة كلها؟ فقال: يدخل من باب ويخرج منه، ثم يدخل الباب الثاني والثالث وهكذا، فقال له السائل: إن الذي يدخل من باب الجنة لا يخرج منها أبداً، فقال الواعظ: أي والله! حتى أنا فاهم هذا الكلام غلط، وهذا يبين لنا الفرق بين الواعظ والعالم.
والجواب على هذه المسألة هو: أن أبا بكر سوف يدخل من الثمانية الأبواب، والله تعالى أعلم بكيفية الدخول، فهذا معتقد أهل السنة والجماعة، كما نعتقد أن مصراعي باب الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين المشرق والمغرب، وإذا كان تراب الجنة المسك والزعفران فكيف بابها؟! وأما قياس الملائكة ما بين القريتين، وحكم الملك بذلك؛ فهذا محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه أمرهم عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا أول من يمر بهم، فمر الملك في صورة رجل فحكم بينهم بذلك، فكان مآل هذا التائب إلى الجنة.