وحينما كانت بيئة الإمام النووي بيئة صلاح ولكنها لا تُشبع نهمه في طلب العلم قدم به والده إلى دمشق سنة (٦٤٩هـ) وكان عمره (١٩) سنة، وكانت دمشق موئل العلماء، ومنهل الفضلاء، ومهوى أفئدة طلاب العلم، وكان فيها من المدارس التي يُدرّس فيها مختلف أنواع العلوم ما يزيد على (٣٠٠) مدرسة، ومنذ أن حط رحله فيها التقى بالشيخ عبد الكافي بن عبد الملك الربعي المتوفى سنة (٦٨٩هـ) وأطلعه على دخيلة نفسه، وما ينويه من طلب العلم، فأخذه وتوجه به إلى حلقة العالم الجليل الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم بن الفركاح المتوفى سنة (٦٩٠هـ) فقرأ عليه دروساً، وبقي يلازمه مدة، ثم التمس من شيخه هذا مكاناً يأوي إليه ويسكن فيه، فدله على شيخ المدرسة الرواحية، وهذه المدرسة بناها أحد التجار المعروف بـ ابن رواحة في دمشق أيضاً.
قال: فدله على شيخ المدرسة الرواحية الإمام الفقيه كمال الدين إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي، فتوجه إليه ولازمه وأخذ عنه وسكن المدرسة الرواحية، وقد ذكر النووي رحمه الله أنه بقي نحو سنتين لا يضع جنباً على الأرض.
أي: أنه بقي سنتين لا ينام وإنما يغفو إغفاءة ثم يستيقظ وهو جالس، وهذا فيه همة عالية في طلب العلم، إذا كان هذا الإمام أو غيره ممن كتب الله تعالى لذكرهم البقاء.
فقال: ويتبلغ بشيء من القوت اليسير، وحفظ التنبيه في نحو أربعة أشهر ونصف، وهو متن عظيم في الفقه، ثم حفظ ربع العبادات من المهذب في باقي السنة وهو يشرح ويصحح على شيخه كمال المغربي، وقد أُعجب به شيخه أيما إعجاب؛ لما رأى من دأبه وحرصه وانصرافه إلى طلب العلم، فأحبه محبة شديدة وجعله معيد الدرس في حلقته -أي: أن الشيخ إذا فرغ من درسه جعل الإمام النووي يعيده في المدرسة الرواحية- حتى أقبل على طلب العلم بنهم وشغف وجد واستعداد وهمة لا تعرف الكلل والملل، فكان يقرأ كل يوم (١١) درساً وقيل: (١٢) درساً على العلماء شرحاً وتصحيحاً: درسين في الوسيط للغزالي، وثالثاً في المهذّب للشيرازي، ودرساً في الجمع بين الصحيحين للحميدي، وخامساً في صحيح مسلم، ودرساً في إصلاح المنطق لـ ابن السكيت، ودرساً في اللمع لـ ابن جني، ودرساً في أصول الفقه في اللمع للشيرازي أيضاً، والمنتخب للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين -أي: في العقيدة- وكان يُعلّق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، وإيضاح عبارة، وضبط لغة.