وقال أبو داود: كان الجراح بن مليح على بيت المال، فكان إذا روى عنه قرنه بآخر، يعني: أن وكيعاً كان إذا روى عن أبيه جعل له قريناً من أجل أن يمشي حديثه؛ لأن أباه لم يكن في مرتبة الحفظ والإتقان، فلم يكن يستحل أن يروي عن أبيه وحده.
كان الجراح بن مليح الرؤاسي أميراً على بيت مال المسلمين في الكوفة، وكان له مع الأعمش سليمان بن مهران الكوفي موقف في غاية الطرافة والفكاهة، فـ الأعمش كان معروفاً عنه أنه شحيح الرواية، وقد جاءه قوم وقالوا له: يا إمام! حدثنا بعشرة أحاديث، قال: ولا بخمسة، قالوا: حدثنا بخمسة، قال: ولا باثنين، قالوا: حدثنا باثنين، قال: ولا بواحد، قالوا: حدثنا بحديث واحد، قال: ولا بنصف، قالوا: حدثنا بنصف حديث، قال: اختاروا إن شئتم حدثتكم سنداً أو حدثتكم متناً، يعني: إما أن أقول لكم: حدثني فلان عن فلان عن النبي عليه الصلاة والسلام ثم أتوقف، فإن وضعتم له متناً كنتم كذابين، وإما أن أحدثكم بالمتن فقط، فإن وضعتم له إسناداً كنتم كذلك كذابين.
فقد كان شحيح الرواية جداً، وكان قائماً على تربية تلاميذه وطلابه.
فأرسل الجراح بن مليح ابنه وكيعاً وهو حدث صغير السن إلى الأعمش، وقال له: اذهب إلى الأعمش فقل له: إن أبي أرسلني إليك لتحدثني، فذهب وكيع وهو لا يعلم من هو الأعمش، وقد كان الأعمش يصرف له راتبه من بيت المال، وكان الذي يصرف له هذا المال أبو وكيع، فأخر الجراح راتب الأعمش حتى يحدث وكيعاً، فلما أتى وكيع إلى الأعمش قال له: ما اسمك يا غلام؟! قال: وكيع، قال: اسم نبيل ما أحسب إلا سيكون لك نبأ، أين تنزل من الكوفة؟ قلت: في بني رؤاس، قال: أين من منزل الجراح بن مليح؟ قال: قلت: ذاك أبي -وكان على بيت المال- قال: فقال لي: اذهب فجئني بعطائي وتعال حتى أحدثك بخمسة أحاديث، قال: فجئت إلى أبي فأخبرته، فقال: خذ نصف العطاء فاذهب به، فإذا حدثك بالخمسة فخذ النصف الآخر فاذهب به حتى يكون عشرة، قال: فأتيته بنصف عطائه، فأخذه فوضعه في كفه، وقال: هكذا، ثم سكت، فقلت: حدثني، قال: اكتب، فأملى علي حديثين، قال: قلت: وعدتني خمسة، قال: فأين الدراهم كلها؟ أحسب أن أباك أمرك بهذا، ولم يعلم أن الأعمش مدرب، وهو معتاد على مثل هذا.