[شرح حديث شفاعة أسامة في المخزومية التي سرقت من طريق قتيبة بن سعيد وابن رمح]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث بن سعد (ح) وحدثنا محمد بن رمح أخبرنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: (أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت)] هي امرأة مخزومية من قريش سرقت فاغتم أهلها لهذه الجناية التي وقعت منها؛ لأنهم يعلمون أن هذه الجناية تستوجب القطع، لكنها شريفة فكيف تقطع هذه المرأة؟! هذا عار على أهلها! قالت: [(فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)] يعني: من يشفع في العفو عن القطع عند النبي عليه الصلاة والسلام؟ قالت: [(قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة)] أي: من يقوى على ذلك ويقدر عليه إلا أسامة.
وهذا من باب الدلال؛ وذلك لأن أسامة هو ابن زيد بن حارثة، حب رسول الله عليه الصلاة والسلام وابن حبه، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقولها: (فقالوا: من يجترئ عليه) من جهة الإدلال ومن جهة عظيم الخاطر والمنزلة، وفي هذا منقبة عظيمة لـ أسامة، حيث إنهم لم يختاروا أحداً إلا أسامة ليشفع لهذه المرأة القرشية المخزومية أن يعفو النبي صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحد عليها.
قالت: [(فكلمه أسامة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتشفع في حد من حدود الله؟)] وفي هذا إثبات أن هذا إنكار على أسامة، كما أنه إثبات لعدم جواز الشفاعة في الحدود.
قال: [(ثم قام فاختطب فقال)] أي: قام النبي عليه الصلاة والسلام فخطب الناس، فكان مما قال عليه الصلاة والسلام: [(أيها الناس! إنما أهلك الذين قبلكم -كأنه يقصد بني إسرائيل- أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)] فبين عليه الصلاة والسلام أن ترك الحدود هلكة.
هذا الكلام يوحي أن عدم العدل والمساواة بين الشريف والوضيع إذا أتيا ما يستوجب الحد في حقيهما سبب للهلاك، مع أن الحد يقام، لكنه يقام على قوم ولا يقام على آخرين، وهذا ما يعرف في هذا الزمان بالمحسوبية، فلان لا يضرب ولا يحبس ولا تصل إليه الأيدي؛ لأن قريبه الوزير الفلاني، أو الوالي الفلاني، أو فلان الفلاني، أو من له المكانة والمنصب، أو هو صاحب جاه أو مال أو رئاسة أو منصب أو غير ذلك، فهذا لا يجوز لأحد أن يقترب منه لمكانته الاجتماعية.
أما الوضيع فإنه أول من يُطبق عليه الحد، وكلمة الوضيع ليست إهانة، إنما هو مصطلح وضع لمن لم يكن له أهل أو منصب أو قبيلة، أو ليس لديه مال أو غير ذلك، أما ميزان التفضيل في لسان الشرع فهو بتقوى الله عز وجل، فكم من إنسان يظن أنه عالي المنزلة مرموق المكانة لكنه لا يزن عند الله جناح بعوضة! وكم من إنسان لا يؤبه له ولا يلتفت إليه، لكنه في أعلى عليين عند رب العالمين سبحانه وتعالى! والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى).
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].
وقال عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فميزان الشرع هو الميزان العدل، إذ إن المرء يوزن بتقواه، وما دون ذلك لا وزن له عند الله عز وجل.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله) هذا قسم، وكأنه يقول: والله، مع أنه لم يستقسم، وإنما أقسم عليه الصلاة والسلام من غير أن يستقسمه أحد؛ لبيان أهمية الأمر وخطورته والتأكيد عليه.
قال: (وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
وفي هذا إثبات القدوة والأسوة، إذ إنه عليه الصلاة والسلام يبدأ بنفسه أولاً، وليس هذا الأمر موجهاً للأمة فحسب، بل الأولى به نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو في المكانة والمنزلة التي لا تخفى على أحد.
وفي حديث ابن رمح - أي: محمد بن رمح - (إنما هلك الذين من قبلكم).