اتخاذ الأسباب ليس قادحاً في التوكل
قال: (وفي هذا الحديث: استحباب لبس البيضة والدروع على الرأس والصدر، وهو من أسباب التحصن في الحرب، وأنه ليس بقادح في التوكل).
وهذا الأمر خالفت فيه الصوفية أيضاً.
فالصوفية يقولون: إن الأخذ بالأسباب يتنافى مع التوكل.
أرأيتم البلوى؟ لو كان أخذ الأسباب يتنافى مع التوكل لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أحب الخلق إلى الله- بسبب واحد، ولما أمرنا أن نتوكل على الله حق توكله، فحينئذ يرزقنا ولا نتخذ الأسباب، إن التوكل على الله بغير اتخاذ الأسباب إنما هو تواكل وضعف وفساد في الاعتقاد، فالواجب عليك أن تأخذ الأسباب ولا تعتمد عليها، بل تعتمد على الله عز وجل.
والعلماء يقولون: الاعتماد على الأسباب شرك بالله.
وترك الأسباب قدح في التوحيد.
مثال ذلك: إذا تزوجت فقد التمست أسباب تحصيل الولد، وليس من اللازم أن ترزق الولد، ولكن في المقابل لا يقول أحد: إذا كان الله قدر لي الولد فإنه سيرزقني الولد بغير زوجة! كما أنك لو كنت جائعاً لا تأكل.
فقد يزعم شخص التوكل في أمر حبله طويل، وإن كان حبله قصيراً فإنه لا يستطيع، كالجماعة الكرماوية الذين يلبسون عمائم خضراء وكوفيات خضراء ويخضبون لحاهم بالأخضر.
فهؤلاء شغلهم الشاغل أنه لا يوجد شيء اسمه أسباب؛ ولذلك يتركون العمل فتراهم لا يعملون.
قيل لي ذات مرة: نريدك أن تناقش شخصاً، فذهبت لأناقشه، أقسم بالله العظيم حينما رأيت والده كأنني رأيت شيطاناً لا إنسياً، فجلست مع والده أكثر من ساعتين انتظاراً لخروج ولده من غرفته التي أغلق بابها عليه، فقلت لأبيه: دعني أكسر الباب وأدخل عليه قال: لا.
هو سيخرج بنفسه.
فإذا به خرج وقال: ماذا تريد؟ قلت له: أريد أن أعرف مذهبك فإذا وجدت أنه حق اتبعته.
فهش وبش وقال لي: كنت في الغرفة وقد تأخرت عليك، وما أخرني عنك -والله- إلا جبريل.
فقلت له: جبريل ينزل عليك؟ قال: نعم.
قلت له: هذا عدو اليهود من الملائكة.
قال: أنت يهودي؟ قلت: لا.
أنا مسلم والحمد لله.
فقال: أنت مسلم على ملة محمد أم على ملة الرجل الصالح؟ قلت: أنا مسلم على ملة الرجل الصالح محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال: إما هذا وإما ذاك.
قلت: ومن الرجل الصالح؟ قال: إذا دخلت في ديني عرفت هذا الرجل.
فقلت: ومن الرجل الصالح؟ قال: رجل من السويس، لا يمكن الوصول إليه إلا إذا آمنت بمبادئه.
وصار يعدد المبادئ، منها وأعظمها: ترك الأسباب؛ لأنه يتنافى مع التوكل.
وهذا الشاهد من القصة كلها، فالقصة طويلة ولا أريد أن أضيع وقتكم، لكن هذه الكرماوية، وأشهد بالله أنهم خرجوا من الملة بما يقولون ويعتقدون أن جبريل ينزل عليهم، والحقيقة أن الذي ينزل عليهم هو الشيطان وليس جبريل، فقد انقطع نزول جبريل بالوحي على محمد عليه الصلاة والسلام بعد موته.
فالصوفية منهم من يقول بهذا المذهب ويعتقد أن اتخاذ الأسباب يقدح في التوكل، فترى الواحد منهم يهيم على وجهه في الصحراء ويسافر المفاوز والجبال بغير أن يتخذ له زاداً أو طعاماً وشراباً.
لماذا؟ يقول: لأن هذا يتنافى مع التوكل.
وطبعاً هذا كلام فاسد في غاية الفساد، ولو أنك في الحقيقة تقول: إن اتخاذ الأسباب يتنافى مع التوكل، فلا تتزوج واطلب الولد بغير زواج، واطلب الشبع والري بغير طعام ولا شراب، فإن هذه الاعتقادات الفاسدة جعلت جماعة الكرماوية يسطون على المحلات، ويسرقون محلات الذهب ومحلات الطعام والشراب وغير ذلك.
حضرنا ذات مرة في بيت محمد الكرماوي الكبير زعيم الكرماوية، ولم نكن نعرف أنه هو الرجل الصالح، وهو سويسي ومن سكان شبرا، والمشهور أن شبرا من أماكن الفتن.
أقول: لم أعرف ماذا قالوا بعد حضرة طويلة، وكان هذا سنة (١٩٨٢م)، فقمت وقلت له: يا شيخ محمد! وما هو الدليل على هذا؟ ولم أفق إلا في الشارع من ضربهم لي.
فقلت: هل من المعقول أن النبي الجديد يعامل الناس الذين يريدون أن يتبعوه بهذه المعاملة؟ فهذا سيصبح ديناً فاسداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يضرب أحداً ولم يكن يؤذي أحداً، بل كان يواسي كل من أتاه عليه الصلاة والسلام.
فالأصل أن المرء يفر من مواطن البدع كما يفر من الأسد، لكننا ما عرفنا أن هذا أصل من أصول أهل السنة إلا حينما قرأنا في أصول أهل السنة، لـ ابن بطة واللالكائي، وأصول السنة للإمام أحمد وولده عبد الله، والخلال وغير ذلك من الكتب العظيمة جداً التي صنفت في أصول السنة.