[كلام النووي في أحاديث رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم]
قال: (قال العلماء: لما قدم المهاجرون آثرهم الأنصار بمنائح من أشجارهم، فمنهم من قبلها منيحة محضة -أي: هبة وعطية بغير مقابل، وليس ديناً يستقر في الذمة- ومنهم من قبلها بشرط أن يعمل في الشجر والأرض وله نصف الثمار، ولم تطب نفسه أن يقبلها منيحة محضة؛ وهذا لشرف نفوسهم وكراهتهم أن يكونوا كلاً على غيرهم -أي: عالة على غيرهم- وكان هذا مساقاة أو في معنى المساقاة، فلما فُتحت عليهم خيبر استغنى المهاجرون بأنصبائهم فيها عن تلك المنائح، فردوها إلى الأنصار.
ففي هذا: فضيلة ظاهرة للأنصار في مواساتهم وإيثارهم لإخوانهم من المهاجرين، وما كانوا عليه من حب الإسلام وإكرام أهله، وأخلاقهم الجميلة، ونفوسهم الطاهرة، وقد شهد الله تعالى لهم بذلك؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:٩]).
فهذه شهادة الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات للأنصار، أنهم يحبون من هاجر إليهم.
قال: قوله: وكان الأنصار أهل أرض وعقار، وزرع وحرث، والعقار هو في الغالب: النخل، أو كل ما له أصل.
وقيل: هو النخل خاصة.
وكانت -أي: أم أنس - أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقاً لها، -أي: نخلاً لها- فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أم أيمن.
وفي هذا دليل لما قدمنا عن العلماء أنه لم يكن كل ما أعطت الأنصار على المساقاة، بل كان فيه ما هو منيحة ومواساة بغير مقابل ولا ديناً مستقراً في الذمة، وهذا منه.
أم أنس بن مالك أم سليم حينما أعطت المنيحة والنخل للنبي صلى الله عليه وسلم ما أرادت إرجاعه، وما استقر في ذمة النبي صلى الله عليه وسلم كدين، وإنما فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا منيحة محضة فأعطاها لـ أم أيمن، وهو محمول على أنها أعطته صلى الله عليه وسلم ثمارها يفعل فيها ما شاء، من أكله بنفسه وعياله وضيفه، وإيثاره بذلك لمن شاء، ثم له أن يعطيها حتى لو كانت على سبيل الهدية، وفي هذا إبطال لما استقر في أذهان العامة أن الهدية لا تهدى ولا تباع، بل هي تهدى وتباع وتُرد، والراد للهدية يحمل المردود إليه، لكن ليس لمن أهدى أن يطالب بالهدية؛ فلهذا آثر النبي عليه الصلاة والسلام أم أيمن، ولو كانت إباحة له خاصة لما أباحها لغيره؛ لأن المباح له بنفسه لا يجوز له أن يبيح ذلك الشيء لغيره، بخلاف الموهوب له نفس رقبة الشيء، فإنه يتصرف فيه كيف شاء.
قال: (رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم)، في هذا دليل على أنها كانت منائح ثمار، دون تمليك للعين، فإنها لو كانت هبة لرقبة النخل لم يرجعوا فيها، وإنما هذا كان في الثمار فحسب؛ فإن الرجوع في الهبة بعد القبض لا يجوز، أما قبل القبض يجوز).
والأحوط: إذا وجدت الموهوب يُباع فلا تشتر، وأنتم تعلمون أن عمر بن الخطاب وهب فرساً فوجده يباع في الأسواق، فأراد أن يشتريه فنهاه النبي عليه الصلاة والسلام، فإن الرجوع في الهبة بعد القبض لا يجوز، أما قبل القبض فيجوز.
قال: (وإنما كانت إباحة للثمار كما ذكرنا، والإباحة يجوز الرجوع فيها متى شاء الواهب، ومع هذا لم يرجعوا فيها حتى اتسعت الحال على المهاجرين بفتح خيبر، واستغنوا عنها فردوها على الأنصار فقبلوها -أي: الأنصار- وقد جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم ذلك).
قوله: (قال ابن شهاب: وكان من شأن أم أيمن التي هي أم أسامة بن زيد أنها كانت وصيفة لـ عبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة.
فهذا تصريح منه أنها حبشية).
وفي قصة أم أيمن أنها امتنعت من رد تلك المنائح التي عوضها عشرة أمثالها إنما فعلت هذا لأنها ظنت أنها هبة مؤبدة وتمليك لأصل الرقبة، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام استطابة قلبها في استرداد ذلك، فما زال يزيدها في العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه صلى الله عليه وسلم وإكرام لها؛ لما لها من حق الحضانة والتربية عليه.