[شرح حديث أبي سعيد في التماس ليلة القدر في الليلة الخامسة أو السابعة أو التاسعة والعشرين]
قال: [حدثنا محمد بن المثنى وأبو بكر بن خلاد قال: حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد -هو ابن أبي عروبة - عن أبي نضرة -هو المنذر بن مالك بن قُطَعَة - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:(اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تُبان له)] يعني: قبل أن يخبر ويأتيه الوحي بأنها في العشر الأواخر.
قال: [(فلما انقضين -أي: فلما مرت هذه العشر الأوسط- أمر بالبناء فقوض)] يعني: لما انتهت هذه العشر الأوسط أمر بهذه الخيمة فنزعت وأزيلت.
قال: [(ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر فأمر بالبناء فأعيد)] أي: لما أخبر بليلة القدر أمر بالخيمة فأعيد تركيبها وبناؤها مرة أخرى.
قال: [(ثم خرج على الناس فقال: يا أيها الناس! إنها كانت أبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فَنُسِّيتُها)] يعني: أنا رأيت في ليلة الحادي والعشرين أن ليلة القدر ليست في العشر الأوسط من الشهر وإنما هي في الأواخر منه، وربما رآها تحديداً في ليلة بعينها، وقام من نومه وأتى أصحابه ليخبرهم بميعاد هذه الليلة من ذلك العام، وليست هذه الليلة متعينة في كل عام.
قوله:(فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان) فتحاقا أو تخاصما أو تلاحيا كلها بمعنى واحد، والمعنى: أن كل واحد منهما يدعي أن له حقاً عند صاحبه، ويطالب صاحبه بالحق الذي عنده، وكان معهما الشيطان، فلما رأى ذلك النبي عليه الصلاة والسلام نسي ما كان سيحدث به أصحابه، وهذا يدل على أن الخصومة والملاحاة سبب للعذاب والشقاء، وسبب لرفع الخيرات وجلب المضرات.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى:(وإني خرجت لأخبركم بليلة القدر، غير أني رأيت رجلين منكما قد تخاصما فرفعت) فهل معنى (رفعت) نسيتها أو أُنسيتها، أم أنها رفعت هذه الليلة وتحولت إلى ليلة أخرى؟ على خلاف بين أهل العلم، وهذا يدل على أن الخصومة والملاحاة والخلافات سبب لمحق البركات وجلب المضرات.
قال: [(فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)] يعني: التمسوها في التاسعة والعشرين والسابعة والعشرين والخامسة والعشرين، مع أنه كان حقه أن يقول: التمسوها في الخامسة والسابعة والتاسعة؛ للترتيب، ولكنه أتى من الآخر قال:(التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)، ولذلك لم يتفطن أحد من أهل العلم إلى هذه الأعداد إلا ابن تيمية عليه رحمة الله، فقال كلاماً جميلاً سأذكره.
ومبدأ الحساب للمجتهد المطلق أمر لازم، وإلا كيف سيتعامل مع الأعداد والأرقام الموجودة في الكتاب والسنة؟ لا بد أن يكون فقيهاً بمادة الحساب والرياضة، ولذلك الإمام السيوطي عليه رحمة الله ادعى أنه مجتهد مطلق، وأراد أن يصنع لنفسه مذهباً يخالف فيه مذهب إمامه؛ لأنه كان شافعي المذهب، فخالفه في ثمان عشرة مسألة فقط، فرأى أن العملية ما تستأهل مذهباً منفرداً؛ لأنه كان يفكر بنفس الطريقة التي كان يفكر بها الشافعي والشافعية، فكيف يخالفهم والمنهج الفكري واحد، والأصول واحدة؟ الشاهد: أن الإمام السيوطي ظن أو ترجح لدى نفسه أنه يحق له أن يكون مجتهداً مطلقاً، لأنه بلغ في العلم شأناً عظيماً جداً، وكان كعبه عالياً في العلم، خاصة فيما يتعلق بالعلوم الحديثية، وكان ذا شأن عظيم، لكن الإمام السخاوي كان يعيش معه في عصر واحد، فلم يكن السيوطي يصنف كتاباً إلا ويرد عليه السخاوي والعكس بالعكس، والسيوطي له أكثر من ألف ومائتي مصنف، وقيل: ألفا مصنف، ما ترك باباً من أبواب العلم إلا وصنف فيه مؤلفاً: أدب، لغة، حديث، فقه، تفسير، ما ترك شيئاً إلا وصنف فيه كتباً وصار إماماً فيه، فقال له السخاوي: أنت قلت: إنك مجتهد مطلق كيف ذلك وأنت تجهل الحساب، هذه المادة الوحيدة التي لم يكن يفقه السيوطي فيها شيئاً، والحساب من ألزم العلوم لعلم المواريث وغيره من المسائل الشرعية التي تحتاج إلى الحساب والرياضة، فـ السيوطي ليس عنده استعداد أن يستوعب مسألة واحدة في الحساب، فـ السخاوي قال له: أنت لست مجتهداً مطلقاً، فيرد السيوطي على السخاوي، وذلك عندما ألّف السخاوي كتاباً اسمه:(ألف سيخ في عين من حرم الفتيخ) والفتيخ هو حديد، وكان السيوطي يحرم الفتيخ، فرد عليه بكتاب اسمه:(الفتيخ في عين من أحل الفتيخ) وكل واحد يأتي بأدلته، ودار بينهما من المهاترات والمناظرات الشيء الكثير جداً، وقد ذكر السخاوي طرفاً عظيماً جداً في