[حكم النفقة على الأبوين]
في الحديث مسألة: هل نفقة الأبوين واجبة على الابن؟ ربما نبادر القول بنعم، وأنه يجب على الابن أن ينفق على والديه ولا غضاضة في هذا التعجيل، لكن القضية إنما محلها إذا كان الولد ليس معه إلا ما يكفي امرأته وأولاده في سد الرمق، فهل يطالب الابن كذلك والحالة هذه برعاية والديه؟ السؤال بمعنىً آخر: إذا لم يكن مع الولد إلا ما يكفي للنفقة على والديه نفقة واجبة أو على قدر الكفاية أو النفقة على امرأته وأولاده، فأيهما تقدم: النفقة على أبويه أم على أولاده وامرأته؟ أنتم تعلمون النصوص التي وردت في قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) والمعلوم يقيناً أن النفقة على المرأة والأولاد داخلة في مسئولية الرجل في الدرجة الأولى، ووقع الخلاف بين أهل العلم في نفقة الأبوين، فأيهما يقدم الولد إذا لم يكن معه إلا ما يكفي لأحد الطرفين: والديه أم الزوجة والأبناء؟ وهل هذه القضية يحكمها قوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن خير أو أطيب ما أكل المرء من كسب يده وولده من كسبه) وغير ذلك من الأحاديث التي رواها أبو داود والترمذي وابن ماجة التي تفيد أن الوالد يملك الولد وما ملك من المال؟ هذه القضية يا إخواني! وقع فيها نزاع عظيم جداً، فقد قرأت منذ أكثر من خمسة عشر عاماً كلاماً لـ ابن القيم الجوزية وعلق في ذهني يقول فيه: لا يلزم الولد على هذا النحو أن ينفق على والديه، بل لوالديه أن يأخذا من مال الزكاة أو الصدقة المطلقة للإنفاق على أنفسهما، والولد إنما يعمل لينفق على زوجته وأولاده.
وهذا الذي أحفظه جيداً منذ سنوات عدة وأردده على بعض المسامع، وقد راجعني أحد الإخوة الأفاضل من طلاب العلم في ذلك، وبمناسبة إعدادي لشرح هذا الحديث قلبت مكتبتي شرقاً وغرباً هذا اليوم حتى أحصل على هذا الكلام الذي قرأته لـ ابن القيم فلم أحصل عليه، وخير لي أن أنسب الوهم إلى نفسي، لكني على أية حال قرأت ذلك وربما يكون لغير ابن القيم، وربما يكون لـ ابن القيم في كتاب ليس بين يدي الآن، لأن كل كتب ابن القيم التي أملكها الآن بحثت فيها بحثاً حثيثاً منذ طلوع الفجر إلى ساعتي هذه ولم أجد شيئاً.
فعلى أية حال: الرجوع عما كنت بثثته في الناس خير من التمادي فيه، وبل وخير من إثباته لإمام من أئمة الهدى مع احتمال طروء الوهم.
وقد نظرت في الأحاديث التي كنت قد قرأت شرحها فيما يتعلق بأحاديث الباب عند أبي داود في باب: الرجل يأكل من مال ولده، عن عمارة بن عمير عن عمته: (أنها سألت عائشة رضي الله عنه في حجر يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه).
وهذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: هو حديث حسن.
وهو كذلك.
وعن النبي عليه السلام قال: (ولد الرجل من أطيب كسبه، فكلوا من أموالهم).
وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً، وإن والدي يجتاح مالي) يجتاح يعني: يستأصله.
(قال: أنت ومالك لوالدك) مع قول الولد: يجتاح.
(إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم).
لما كنت طالباً في الجامعة وذلك قبل عشرين سنة، وكنت أسافر كل إجازة وإذا بوالدي منتظر لي في المطار من أجل يأخذ مني الفلوس، فكنت أعطي له البعض وأحتفظ بالبعض الباقي فكان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) فلم يحفظ من أحاديث السنة كلها إلا: (أنت ومالك لأبيك)، لم يحفظ أحاديث في الرحمة، وأحاديث في الرأفة، وأحاديث في الحرية وغيرها، فلما وقفت على كلام ابن القيم قلت له: اقرأ.
فهذه الحادثة ما نسيتها؛ لأنه بسببها راحت كل أموالي، فإما أن أكون قرأت لـ ابن القيم في أحد الكتب أو قرأت في غير كتاب لـ ابن القيم نقلاً عن ابن القيم، وأنا مستعد أن أكون أنا وامرأتي وأولادي ملكاً لوالدي ولو فعلت لكان قليلاً، لكنني أردت أن أستدل لما كان من أمري.
قال الإمام الخطابي: في هذا الحديث: أن نفقة الوالدين واجبة على الولد إذا كان واجداً لها.
يعني: يعمل لينفق على امرأته وأولاده فما فضل وما تبقى من النفقة الواجبة فهو للوالدين بلا خلاف بين أهل العلم.
والنفقة الواجبة هي سد الرمق وستر العورة.
والعلماء يقولون في باب اللباس: يلزمه ثوبين في الصيف وثوبين في الشتاء.
وفي باب الطعام والشراب: ما يقوم به البدن.
قال: واختلفوا في صفة من تجب ل