وأما التأصيل والقاعدة الثالثة: أوّل النووي بعض الصفات ولا سيما الفعلية منها تنزيهاً لله عن ظاهرها، وخشية تشبيهه بخلقه، ووصفه بالتجسيم، والذين سلكوا هذا المسلك خرجوا من التشبيه والتجسيم فوقعوا في التعطيل، وهذا الذي وقع فيه الإمام النووي أيضاً، ولو أثبتوا ظواهر النصوص على حقيقتها على مذهب السلف لنجوا، أثبتوها بالمعنى المعلوم والكيف المجهول الذي يليق بجلال الله عز وجل كما هو الكلام المنسوب إلى الإمام مالك، وهو في الحقيقة كلام أم سلمة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، ثم من بعدها تبنى هذه المقولة ربيعة الرأي، وهو إمام الرأي في المدينة، ثم بعد ذلك أخذها الإمام مالك واشتهرت عنه، حينما سئل عن قول الله عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥] قال: الاستواء معلوم.
إذاً: السلف لا يفوضون العلم، ولا يفوضون المعنى، إنما يفوضون الكيف؛ لأنه قال: الاستواء معلوم، فالعرب يعرفون ما معنى الاستواء، (استوى) عند العرب بمعنى: (علا وارتفع) فلا يقال: استوى بمعنى: استولى، والاستيلاء هذا هو كلام المتأخرين من الأشاعرة وغيرهم، والاستيلاء يلزم منه المناهضة والمدافعة والمبارزة حتى يستولي أحد المتبارزين على الآخر، وحتى يهزمه وينتصر عليه، هذا كلام المتأخرين، وأما كلام السالفين من الصحابة وغيرهم: أن الاستواء بمعنى: الارتفاع والعلو، فهذا هو معنى قول أم سلمة: الاستواء معلوم، أي: معلوم عند العرب بمعنى: علا وارتفع، وعند الخلف بمعنى آخر وهو غير مراد لنا.
قالت: والكيف مجهول، أي: كيفية استواء الرب سبحانه وتعالى على العرش هذه مجهولة لنا، وقد ناقشت أحد الأساتذة الكبار في الجامعات فقال: الاستواء مجهول، والكيف مجهول، قلت: لقد أتيت بطامة لم يأت بها حتى الخلف، ثم استطردنا في الكلام فقال: الكيف مجهول، فقلت له: على من؟ قال: على الله، قلت: كيف يخفى على الله عز وجل استواؤه؟ فقال: هكذا الكلام الصحيح للقاضي عبد الجبار وغيرهم.
قلت: لا، فالقاضي عبد الجبار يقول: الاستواء بمعنى: الاستيلاء، وأما أنت فإنما تنفي هذا عن القاضي عبد الجبار وغيره، وإثبات هذا الكلام للقاضي لا شك أنه افتراء عليه.
فكان عاقبتي أن طُردت من الجامعة، ووصى بي الذين يقفون على البوابة أن يراقبوني ويخرجوني، فجزاه الله خيراً، وربنا يهديه.