للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نقل كلام الإمام النووي في معنى صفة الغضب والرضا وبيان الخطأ فيه]

قال العلماء في الحديث الأول: (إن رحمتي تغلب غضبي)، وفي رواية: (رحمتي سبقت غضبي): غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة، فإرادته الإثابة للمطيع، ومنفعة العبد تسمى رضا، ورحمته وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضباً، وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمه يريد بها جميع المرادات.

قالوا المراد بالسبق والغلبة هنا: كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثر منه.

هكذا قال الإمام النووي نقلاً عن العلماء، وهذا النقل إنما هو نقل عن علماء الأشاعرة، لذا فليس هذا الكلام هو معتقد أهل السنة والجماعة، فالمعلوم أن الله تبارك وتعالى يغضب غضباً حقيقياً يليق بجلاله وكماله، والمعلوم أن الله تعالى يرحم عباده رحمة لا يعلم كنهها إلا الله عز وجل، أما نحن فقد أيقنا أن الله تعالى يغضب ويرضى ويسخط، ولا يستلزم إيماننا بهذا مشابهة غضب الله بغضب خلقه، ولا رحمة الله تعالى برحمة خلقه، ولا فرح الله تعالى بفرح خلقه، ولا رضا الله تعالى برضا خلقه، وقد قلنا: إن اختلاف صفات الله عز وجل عن صفات المخلوقين ما هو إلا فرع لأصل وهو اختلاف الذات، فلما اختلفت ذات الله تعالى عن ذوات المخلوقين لا بد أن تختلف الصفات، فليست ذاته كذوات المخلوقين، وبالتالي فإن صفاته ليست كصفات المخلوقين.

ثم إن صفات الله سبحانه وتعالى لا توهم التشبيه ولا التمثيل لصفات المخلوقين، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة من جهة النقل عنهم، أما من جهة العقل فما المانع أن نسلم لله عز وجل بما أثبته لنفسه؟ فنكتفي فقط بأن الله تعالى يغضب، ولا يستلزم الغضب في حق الله تعالى انفعالات نفسيه، وإنما ذلك في العبد، فتجعل المرء يتهور، أو يأتي بسفه أو بشيء من هذا، لكن الغضب في حق الله ليس كذلك، وكذلك الفرح: (لله تبارك تعالى أفرح بتوبة عبده من أحدكم من لقاء دابته التي ضلت طريقها)، فهل فرح الله عز وجل هو نفس فرح العبد؟ لا، وكذلك رحمة الله تبارك وتعالى لعباده ليست كرحمة العباد بعضهم لبعض، فإذا اختلفت الذات فلا بد وأن تختلف الصفات.

وأما قوله: (والمراد بالسبق والغلبة هنا: كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثر منه).

فأولاً: هذا القياس غير صحيح؛ للاختلاف بين الخالق والمخلوق، وإذا سلمنا بأن هذا قياس صحيح فلا بأس أن نقول: إن هذا المعنى ينضم إلى المعنى الأصلي، فيكون الأصل عندنا أن الله تعالى يغضب كما يشاء، ويفرح كما يشاء، ويغفر كما يشاء، ويسخط كما يشاء، فنؤمن بهذا ولا نخوض فيه، ولا بأس أن نضم إلى هذا المعنى الأصلي -الذي هو أصل القضية عندنا فيما يتعلق بالصفات- معنىً آخر وهو: أن المراد بالسبق والغلبة هنا: كثرة الرحمة وشمولها، أي: أن رحمة الله تعالى أعظم وأكثر وأشمل من غضبه، فلا بأس بهذا المعنى خاصة وأن الأدلة أثبتت أن رحمة الله تبارك وتعالى أوسع من غضبه، وأن الله تعالى إذا وعد بالرحمة فإنه لا يخلف وعده، وإذا توعد بالعذاب فإن ذلك داخل في مشيئته، فقد تقع أو لا تقع، أي: قد ينفذها الله عز وجل، أو يعفو ويصفح.

إذاً: رحمة الله تعالى أوسع وأشمل وأعم من غضبه، لكن كيف يغضب؟ وكيف يسخط؟ وكيف يرضى؟ الكيفية لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولذلك يحذر من تأويل النص عن ظاهره، بل يجب الإيمان به كما جاء، وإمراره كما جاء، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة قاطبة، ولم يخالف في ذلك أحد منهم.