وهذه الأحاديث مخصصة لعموم قول الله عز وجل:{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم:٣٩]، هذه الآية قاضية بأن الإنسان لا ينتفع بشيء قط إلا بشيء قد عملته يده، لكن قد ورد إجراء الخير والثواب والفضل لأصحابه بعد وفاته؛ لأنهم كانوا سبباً في ذلك.
ومثل هذه الآية قوله تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:١٦٤] يعني: كل إنسان يحاسب على ما اقترفته يداه لا ما اقترفته يد غيره، ولذلك عائشة رضي الله عنها لما سمعت عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرويان عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله:(إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) قالت: أخطأ عمر وأخطأ أبو عبد الرحمن، ثم استشهدت لنفسها بظاهر هذه الآية.
قالت: أين هذا من قول الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:١٦٤]؟ وما ذنب هذا الميت أن يعذب ببكاء أهله عليه؟ فهو لا يملك هذا البكاء، ولا يملك كذلك أن يمنعهم؛ فكيف يعذب به، وهي جريمة ارتكبها غيره ولم يرتكبها هو؟ ثم قالت: إنما ذلك في الكافر، كأنها أرادت أن تصحح رواية عمر وابنه رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:(إنما يعذب الكافر ببكاء أهله عليه)، وردَّ عليها ابن القيم رحمه الله بنفس المنطق وقال: وكذلك لا يعذب الكافر بجريرة غيره، أو بجريمة ارتكبها غيره، وقال بعد أن حكم بصحة اللفظ الذي أخرج في الصحيحين من حديث عمر وابنه: إنما ذلك لمن أوصى بذلك، فقوله:(إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) أي: إذا أوصى بذلك، فنحن نعرف أن هناك أناساً كثيرين جداً قبل أن يموت يوصي أهله بالقرآن وهو بدعة، ويوصي بمقرئ وهو بدعة، ويوصي بالبكاء ويقول: استأجروا فلانة النائحة واستأجروا فلاناً النائح وغير ذلك، فإذا أوصى بذلك فإنه يعذب، ولا يعذب حينئذ بجريرة غيره، إنما يعذب بما أوصى به؛ لأنه طلب ذلك، أو أن ذلك معلوماً في سيرته أنه كان يحب البكاء والنواح وغير ذلك على الميت، وكان يفعل ذلك بنفسه، فإذا كان هذا معلوماً من دينه فلا شك أنه يعذب وإن بكى عليه الآخرون.
وهنا قوله:{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم:٣٩]، فصحيح أن الإنسان لا يؤجر إلا على سعيه هو، لكن أحياناً يجرى له من الخير ما لم تعمله يداه، منها الصدقة، ومنها الحج، ومنها الصيام وغير ذلك من أعمال الطاعة، وهي الأعمال التي وردت فيها نصوص قاضية بذلك، فهذه الأحاديث مخصصة لعموم هذه الآية.