[حكم الاستثناء في الطلاق والعتق]
ثم قال: (أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله تعالى، فقال: أنت طالق إن شاء الله تعالى، أو أنتَ حر إن شاء الله تعالى، أو أنتِ علي كظهر أمي إن شاء الله تعالى، أو قال: لزيد في ذمتي ألف دينار أو درهم إن شاء الله، أو إن شفى الله تعالى مريضي فلله علي صوم شهر إن شاء الله أو ما أشبه ذلك؛ فمذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور وغيرهم بصحة الاستثناء في جميع الأشياء، كما أجمعوا عليها في اليمين بالله تعالى، فلا يحنث في طلاق ولا عتق، ولا ينعقد ظهاره ولا نذره، ولا إقراره ولا غير ذلك مما يتصل به قوله: إن شاء الله.
وقال مالك والأوزاعي: لا يصح الاستثناء في شيء من ذلك إلا اليمين بالله تعالى) تنبه لهذا الأمر، تكلم العلماء في هذه المسألة فقط من باب تقرير مسألة شرعية، فلا تظل كلما دخلت بيتك أو خرجت منه قلت لامرأتك: أنت طالق إن شاء الله لا؛ فهذا عند الجمهور تلاعب بألفاظ الشرع، وإن قال جمهور العلماء أن الاستثناء في هذا لا يحنث به المرء؛ فاعلم أن مالكاً ومن معه قالوا: لا يصح فيه الاستثناء بل يقع، يعني: المسألة محل نزاع بين أهل العلم في الطلاق والعتق وغير ذلك.
فهب أن الطلاق والعتق لا يقعان بالاستثناء، فلا يصح من مسلم أن يتلاعب بألفاظ الشرع.
قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو قال: إن شاء الله لم يحنث)، فيه إشارة إلى أن الاستثناء يكون بالقول ولا تكفي فيه النية) يعني: لابد فيه من التلفظ؛ لأن اليمين قد تلفظ به، فلو استثنى في قلبه لا يصح منه ذلك، بل لابد أن يتلفظ بقوله: إن شاء الله، اتصالاً باليمين، أما لو عقد النية على الاستثناء لا يقبل منه ذلك، ولا يكون قد استثنى، وإنما يحنث لانعقاد يمينه.
وهذا للقادر على الكلام، أما غير القادر كالذي لا يتكلم وإنما يتعامل بالإشارة، فالأخرس مثلاً إذا أراد أن يحلف أشار إلى السماء، فعلم منه أنه يريد القسم، أو ربما إن كان يسمع لكنه لا يتكلم، وإنما يتعامل بالإشارة، فحينئذ يجب عليه وصف الاستثناء بالإشارة.
أو أن إنساناً لا يستطيع أن يشير ولا يتكلم، لكنه يتعامل كتابة، فحينئذ يلزمه أن يكتب الاستثناء والمشيئة بعد كتابته لليمين، وإلا فلا يقبل منه غير ذلك.
ثم قال: (أما قوله صلى الله عليه وسلم: (فقال له صاحبه: قل إن شاء الله) -أي: صاحب سليمان- قد يحتج به من يقول بجواز انفصال الاستثناء) يعني: بعد أن حلف سليمان عليه السلام وانتهى من الحلف قال له صاحبه: قل إن شاء الله، فهذا حجة لمن قال بجواز الفصل؛ لأن صاحبه قال له: قل إن شاء الله، ومع ذلك بعد أن ذكره نسي مرة أخرى.
فهذه شبهة.
ثم قال: (وأجاب الجمهور عنه بأنه يحتمل أن يكون صاحبه قال له ذلك وهو بعد في أثناء اليمين) يعني: وهو مازال يتكلم قال له صاحبه ذلك، فبعد أن فرغ من كلامه نسي.
ثم قال: (أو أن الذي جرى منه ليس بيمين، فإنه ليس في الحديث تصريح بيمين).
وفي رواية قال: (والله لأطوفن الليلة على كذا وكذا)، قالوا: لفظ الجلالة هنا لم يقصد به اليمين، وإنما ما أراد به لفظاً دارجاً، لم يقصد منه حقيقة اليمين.
أما قوله: (فتحمل كل واحدة منهن، فتلد كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله) هذا قاله سليمان على سبيل التمني للخير، وقصد به الآخرة والجهاد في سبيل الله تعالى، لا لغرض من أغراض الدنيا.
(أما قوله: (فولدت نصف إنسان، أو شق غلام) قيل: هو الجسد الذي ذكره الله تعالى أنه ألقي على كرسيه.
وأما قوله: (لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله)، هذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بذلك في حق سليمان، لا أن كل من فعل هذا يحصل له هذا) يعني: ليس بلازم أن تقول: والله لأجامعن امرأتي الليلة وتأتي بغلام أو بمجاهد يجاهد في سبيل الله، ليس بلازم أن تأتي بغلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عما كان من أمر سليمان، لا عن أمر كل إنسان، وليس المقصود أن كل إنسان لو حلف واستثنى فيما يتعلق بجماع امرأته يكون ذلك حقيقة؛ لأن إخواننا الذين لم يرزقوا بأولاد ذكور، أو لم يرزقوا بأولاد ولا حتى بإناث، لو كان هذا وعداً لكل من أقسم، لما كان هناك حاجة لأطباء العقم وغيرهم بالمرة، ولقالوا ذلك، وحصلوا على الولد.