شرح حديث عوف بن مالك الأشجعي في استحقاق القاتل سلب من قتل ولو كان كثيراً
[وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: (قتل رجل من حمير رجلاً من العدو، فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد وكان والياً عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ خالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته يا رسول الله! قال: ادفعه إليه)] وانظروا إلى هذا العدل، فهذه التصرفات كانت أيضاً موجودة في الصحابة.
قال: (ادفعه إليه) أي: أنه أمر خالد أن يدفع السلب مع كثرته للقاتل.
قال: [(فمر خالد بـ عوف فجر بردائه)] أي: مع رجوع خالد بن الوليد من المحاكمة النبوية وصدور القرار فيها مر خالد بـ عوف، فقام عوف بجر ردائه، وقال له: ألم أقل لك بأن تعطه لي.
أي: أنك لا تفعل حتى أشتكي بك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم ماذا؟ قال: [(فمر خالد بـ عوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)] كأنه قال له قبل هذا هل تعطيني السلب؟ قال: لا أعطيه.
قال: إذا لم تعطه فسأذهب وآخذه عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فحينما رفع عوف الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام قضى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك له، فشد عوف رداء خالد وقال له: [(هل أنجزت لك ما قلت لك من رسول الله؟ فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام عوف بن مالك يعاتب خالداً غضب لـ خالد قال له: لا تعطه يا خالد! لا تعطه يا خالد!)] أي: بعد أن قال له: أعطه.
قال له: لا تعطه.
وليس هذا تراجعاً من النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو تأديب للجيش ولأمته وتعليمهم طاعة الوالي، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيّن للجيش وللمسلمين أن الأمير له كلمته، وله اجتهاده، وأن اجتهاده معمول به في الناس لا يُراجع فيه، إنما يُستشار فقط في مشروعيته وفي أحقيته، وإذا أخطأ الأمير فقد اجتهد وله أجره، ولا يُلام على ذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [(لا تعطه يا خالد! لا تعطه يا خالد! هل أنتم تاركون لي أمرائي؟)] ألا تريدون أن تتركوا الأمراء في أن يتصرفوا كما يريدون أم لا؟ فمن حق الأمير أن يجتهد، ومن حق الأمير أن يفعل ما يشاء إلا في معصية الله تعالى! قال: (إنما مثلكم ومثلهم -أي: مثلكم يا عامة الناس! ومثل الأمراء- كمثل رجل استُرعي إبلاً أو غنماً فرعاها، ثم تحين سقيها -أي: ذهب ليسقيها- فأوردها حوضاً فشرعت فيه -أي: فبدأت تشرب من الماء- فشربت صفوه وتركت كدره -أي: وتركت الماء المعكّر الذي خالطه التراب- فصفوه لكم وكدره عليهم)] صفوه لكم يا معشر الناس، وكدره على الأمراء.
أي أن أمير الجيش بعد أن تضع الحرب أوزارها، ويكتب الله النصر لجيش المسلمين يقوم بجمع الغنائم الهائلة كلها ويقسمها خمسة أخماس وهذا العمل ليس هيناً، ثم ينظر الأمير في الجند من مات ومن بقي منهم، فيوزّع على الفارس سهمه، وعلى الفرس سهمه، وأنتم تعلمون أن الفارس له سهمان، والفرس له سهم.
ثم الخمس الخامس -وهو الأنفال- يجتهد فيه الإمام فينفل من شاء ويمنع من شاء، وهذا مجهود عظيم جداً، فأنت باعتبارك جندياً وفرداً في الجيش ما الذي تعمله بعد أن يُكتب لك النصر؟ تذهب للنوم في خيمتك إلى أن يأتوا ويعطوك سهمك من الغنيمة، وسهمك من الأنفال، وهذا السهم لم يصل إليك إلا بعد عناء ومشقة، والذي عانى هو الأمير.
إذاً: الأمير هو الذي يتولى ويكون له الكدر والتعب والمشقة وأنت لك الصفو.
أي: أنك لك خيرها، وإذا كان فيها شر فهو على الأمير، فهو الذي يتكبّد المشاق والمتاعب.
وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (فصفوه لكم وكدره عليهم) أي: على الأمراء.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث عوف أيضاً: [(خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة -ومؤتة قرية بالشام- ورافقني مددي من اليمن)] مددي أي: بعض مدد الجيش.
قال: [وساق الحديث غير أنه قال عوف: فقلت: يا خالد! أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته].