[نهي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما عن حج التمتع وحجتهما في ذلك]
قال: [قال: أبو موسى: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال: بم أهللت؟ قال: قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هل سقت من هدي؟ قلت: لا)]، والحديث الأول ليس فيه: (هل سقت من هدي؟) لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أهل ساق الهدي معه من الميقات.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما أهل أهل قارناً، ودخل مكة محرماً قارناً بين الحج والعمرة لما ساق معه الهدي، وأما أبو موسى الأشعري وكذلك علي بن أبي طالب فلم يكن عندهما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي أو لم يسقه، وهذا فارق جوهري بين القارن والمتمتع، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الإهلال، فمن الخير والبركة أن يهل بإهلال النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لما لم يسق الهدي كان له فسخ الحج عن العمرة، فيحرم بالعمرة أولاً، ثم يهل بالحج يوم التروية؛ لأنه لم يسق الهدي.
قال: [(فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل، فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي، فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر، فإني لقائم بالموسم)] أي: أنه كان قائماً في الموسم يفتي الناس، وهذه السنة ما زالت قائمة إلى الآن في منى ومكة وعرفة ومزدلفة، فهناك المشايخ والعلماء وطلاب العلم من الجامعة الإسلامية ومن جامعة ابن سعود وغيرهما يأخذون التراخيص بالإفتاء في موسم الحج بعد اختبارهم في أحكام الحج والعمرة، فإذا كانوا متقنين لهذه الأحكام صدروهم لإفتاء الناس وتعليم الناس مناسك الحج والعمرة؛ لأن الناس هناك يتخبطون تخبطاً عظيماً جداً، فتجد الزحام عليهم شديداً، وهؤلاء يقفون بالليل والنهار للتصدي لإفتاء الناس.
قال: [(فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك، فقلت: أيها الناس! من كنا أفتيناه بشيء فليتئد، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا، فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين! ما هذا الذي أحدثته في شأن النسك؟ قال: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله عز وجل قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:١٩٦]، وإن نأخذ بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى نحر الهدي)] وكلاهما محق، فـ عمر محق في قوله: إن أحسن الأنساك القران؛ لأنه المذكور في القرآن، وهو الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو موسى الأشعري محق في قوله: التمتع جائز؛ لأنه إن لم يكن جائزاً ومجزئاً لصاحبه وفاعله لما أجازه النبي عليه الصلاة والسلام ولما أمره بذلك عندما لم يسق الهدي.
قال: [قال أبو موسى الأشعري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى اليمن، قال: فوافقته في العام الذي حج فيه)]، يعني: جاء من اليمن في العام الذي جاء فيه النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة، فهذا مر بيلملم وذاك مر بذي الحليفة، فالتقيا في البطحاء، أي: بطحاء مكة.
قال: [(فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا موسى! كيف قلت حين أحرمت؟ قال: قلت: لبيك إهلالاً كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل سقت هدياً؟ فقلت: لا، قال: فانطلق فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أحل)] ثم ساق الحديث بمثل ما سبق.
قال: [وعن أبي موسى الأشعري أنه كان يفتي بالمتعة -أي: التمتع بالعمرة إلى الحج، وليست متعة النساء- فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد، حتى لقيه بعد فسأله، فقال عمر: قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه)]، أي: قد قاله وأمر به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمتع وإنما كان قارناً، فـ عمر بن الخطاب يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام قد فعله، ومعلوم في كلام العرب أنه ينسب الفعل إلى الرجل وإن لم يفعله إن كان أمر به، كما يقال: انتصر النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر، وإن كان الذي باشر النصر هم أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
قال: [(ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم)].
وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان فقط من الصحابة كان مذهبهما كراهة التمتع، والعلة في ذلك أن الحاج لم يأت من بلده ليتمتع هنا، بل أول ما يدخل مكة يلبس كلباس الميت، فيلبس الإزار والرداء إلى أن يتحلل من منسكه.
ولما ذكر الإمام مسلم كراهة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للتمتع واستحبابه وتفضيله للقران عليه أردف ذلك مباشرة بباب جواز التمتع؛ لأن جمهور الصحابة على جواز التمتع.