[باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير]
قال: (باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير).
الفؤاد: هو لب القلب، وقيل: هو القلب نفسه، وقيل: هو غشاء القلب، وقيل غير ذلك، ولكن على أية حال المعنى المتبادر إلى الذهن أنه القلب.
والمعلوم أن أهل الجنة هم أهل الخوف من الله عز وجل، وهم أهل الرجاء، وأهل التوكل على الله عز وجل، قلوبهم رقيقة، والقلب يرق وقد يقسو حتى يكون أقسى من الحجارة، مع أنه قطعة لحم، ولما دخل وفد اليمن على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاكم أهل اليمن أرق الناس أفئدة، وألينهم قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية) إلى آخر الحديث في أوصاف أهل اليمن، والشاهد منه: (هم أرق الناس أفئدة وألينهم قلوباً)، إذاً: القلب يلين ويرق.
والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨]، فكلما ازداد العبد علماً ازداد لله خشية، وتوكلاً، ورجاء، ومهابة، وإجلالاً، فكذلك هؤلاء الفئة يدخلون الجنة قلوبهم أرق من قلوب وأفئدة الطير، والمعلوم إذا كان المعنى الخوف من الله فإن الطير معروفة بأنها أشد المخلوقات خوفاً، فإذا ذهب طفل إلى جمهرة عظيمة من الطير طارت كلها؛ خوفاً من هذا الطفل، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) أي: في رقتها وخفتها وتوكلها على الله عز وجل.
[وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق الله عز وجل آدم على صورته)].
أي: على هيئته التي خلقه الله عز وجل عليها بغير تغيير ولا تطوير، أي: من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة، لما خلق الله تعالى آدم من قبضة قبضها من تراب الأرض جعل طوله في أول الخلق ستين ذراعاً، ومات آدم وطوله ستون ذراعاً، فلم يمر بهذه الأطوار التي يمر بها ذريته.
قال: [(طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة -إذاً: الملائكة أسبق في الخلق من آدم وذريته- وهم جلوس فاستمع ما يجيبونك -أي: اسمع يا آدم الإجابة على كلامك- فإنها تحيتك، وتحية ذريتك من بعدك، قال: فذهب فقال: السلام عليكم)].
فآدم لما سلم قال: السلام عليكم، ولك أن تقول: سلام عليكم كما قال إبراهيم عليه السلام، فكلها تحية أهل الإسلام، أما صباح الخير، ومساء الخير، وغير ذلك من الأوصاف فإنها من تحيات غير المسلمين، وقد أهدر النبي عليه الصلاة والسلام كل ما يمكن أن يتشبه به المسلم بغيره، من الأخلاق، والملبس، والمطعم، والمركب وغير ذلك؛ حتى تكون للمسلم شخصية متميزة عن شخصية غيره من بقية الخلق حتى في السلام.
ومن المسخ في بلاد الكفار، وإن شئت فقل: في بلادنا كذلك، لكنها ظاهرة بادية في بلاد الكفار: أن الإخوة الملتحين في أمريكا وأوربا لا يسلمون على بعضهم البعض بتحية الإسلام، وإنما يسلمون بتحية أهل بلادهم، وهذه التحية لا ثواب فيها، والنبي عليه الصلاة والسلام لما دخل عليه داخل فقال: (السلام عليكم، قال: عشراً -أي: عشر حسنات-، فلما زاد رجل آخر: ورحمة الله، قال: عشرون، فلما زاد آخر: وبركاته قال: ثلاثون، قالوا: يا رسول الله ما هذا؟) فبين أن كل واحد له من الثواب على قدر ما زاد في السلام، فأكمل التحية هي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وقد صحح الشيخ الألباني عليه رحمة الله: أن الراد لهذه التحية لو أراد أن يزيد فيها حسناً فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته؛ حتى يكون قد أتى برد هو أحسن مما سمع.
الشاهد هنا: أن الله عز وجل أمر آدم أن يذهب فيسلم على الملائكة، ففهم آدم عليه السلام أو أن الله علمه ذلك أن يقول: السلام عليكم، فهذا يدل على أن هذه تحية أهل الإسلام منذ أن خلق الله آدم.
قال: [(فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله، قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، طوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن)].
فالخلق لا يزالون في نقصان إلى قيام الساعة.
ثم بدأ الإمام مسلم بعد كتاب الجنة في سرد الروايات عن النار وما فيها من عذاب أعاذنا الله وإياكم من عذابها، ثم يعقد مقارنة بين الجنة والنار في بعض الأحاديث، يحسن بنا أن نذكر الروايات، أو أن نتلو الروايات التي أوردها الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب ذكر الجنة.
قال رحمه الله تعالى: الحمد لله المشكور على ما أعطى، والمجاب إلى ما دعا، والمرغوب فيما رغب فيه ومنى، أعطانا التوحيد بتعرفه إلينا، وهدانا إلى طاعته بتوفيقه لنا، ورغبنا في كرامته وجنته بعد أن حلاها لنا ورغبنا فيها، فهو السلام، وداره دار السلام -وهي الجنة-، لمن سارع إلى طاعته، وسابق إلى مرضاته، ليحظى بدخول داره التي يأمن فيها من الآفات، ويسلم فيها من العاهات، التي من دخلها أمن من البوار، وسلم من الدمار، وحظي بجوار المنعم الجبار، قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَب