[شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإقدامه]
قال: (قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء) قال العلماء: ركوبه عليه الصلاة والسلام البغلة في مواطن الحرب، وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات، ولأنه أيضاً يكون معتمداً) أي: يكون بارزاً للناس؛ لأن الذي يركب يكون في أعلى الناس، فركوب الدابة شجاعة.
قد يقول قائل: من التواضع أن ينزل عن الدابة، حتى يكون في غبراء الناس.
أقول: لكن الشجاعة في موطن الشدة أولى من التواضع، والكبر في هذا الموطن أولى من التواضع، كان أبو دجانة يمشي في القتال بين الصفين مختالاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن هذه المشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموضع) يستعلي بإيمانه على هذا الواقع الباطل الذي يعيشه، يستعلي بإيمانه على أهل الكفر والشرك، فلا يمشي ذليلاً خاضعاً، بل يستعلي بإيمانه في موقف يستدعي الاستعلاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام ترك موطن التواضع هنا ولم ينزل عن الدابة، بل كان راكباً دابته ليظهر للناس، وكأنه يقول للمشركين: أنا لا أخاف منكم، فأنا باد لكم وظاهر أمامكم، ولم يكن أحد من أصحابه قد بدا بدوه وظهر ظهوره للمشركين أكثر من بدوه عليه الصلاة والسلام، فهذا منتهى الجرأة والشجاعة في القتال والإقدام وترك الإدبار منه صلى الله عليه وسلم.
(والفائدة الثانية: حتى يرجع المسلمون إليه في مسائلهم، وتطمئن قلوبهم به وبمكانه)، وأنه لا يزال موجوداً وحياً عليه الصلاة والسلام.
(وإنما فعل هذا عمداً وإلا فقد كانت له عليه الصلاة والسلام أفراس معروفة.
ومما ذكره في هذا الحديث من شجاعته عليه الصلاة والسلام: تقدمه يركض -أي: يسرع العدو- خلف المشركين، وقد فر الناس عنه.
وفي الرواية الأخرى: أنه نزل إلى الأرض حين غشوه.
وهذه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر).
{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:١٢٠] فالصبر والتقوى من أعظم عدة النصر في ساحة القتال.
(وقيل: فعل ذلك مواساة لمن كان نازلاً على الأرض من المسلمين، وقد أخبرت الصحابة رضي الله عنهم بشجاعته في جميع المواطن).
فضد الشجاعة هو الجبن، والنبي عليه الصلاة والسلام موصوف بكل كمال بشري في جميع الصفات، وهذا من عقائد المسلمين، لم يكن هناك موطن خسة للنبي فيه أدنى نصيب، بل ضرب المثل الأعلى في جميع صفات الكمال البشري، من شجاعة وأدب ورفعة وكرم ضيافة وحسن خلق وحسن عشرة وغيرها، فربما يكون في الأمة من اتصف بالشجاعة وعنده خلل في بقية الصفات، وربما اتصف أحد بالحلم والصبر، ولكن عنده خلل في الصفات الأخرى، وربما اتصف أحد بالعلم، ولكنه أرعن وأهوج وغير ذلك من صفات السلب والنقص.
أي: أنك لا تجد إنساناً إلا وقد برز في خصلة أو خصلتين أو ثلاث خصال، ولكن عنده عجز في بقية الصفات، أما الذي حاز الكمال البشري في ذروته وكماله وتمامه في جميع الصفات هو نبينا عليه الصلاة والسلام، فما كانت هناك خصلة من خصال الخير إلا قد برز فيها بروزاً لم يلحقه أحد ممن سبقه ولا ممن لحقه إلى قيام الساعة، وهذا هو نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال: (وفي صحيح مسلم: إن الشجاع منا الذي يحاذي به، وإنهم كانوا يتقون به).
أي أن أشجع واحد في أصحابه في هذا الموطن كان يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، وحينما سمع أهل المدينة جلبة صوت عظيم جداً قاموا ينظرون إلى مصدر الصوت ما هو؟ فإذا بهم يخرجون خارج المدينة إلى ناحية الصوت، وفي حال خروجهم من المدينة إذا بالنبي عليه الصلاة والسلام راجع من مصدر الصوت وهو يقول لهم: (لم تراعوا لم تراعوا) ذهب صلى الله عليه وسلم بمفرده ولم ينتظر أبا بكر ولا عمر ولم ينتظر أحداً، بل ذهب ورجع بنفسه عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على شجاعته عليه الصلاة والسلام.