[الأسباب التي أدت إلى وقوع الإمام النووي في مخالفة أهل السنة في بعض مسائل العقائد]
أما الأسباب التي أدت إلى وقوع الإمام النووي في هذه الأخطاء فهي كثيرة: منها: أنه سار في شرحه في مسائل الصفات على نهج المازري، وكذلك على نهج القاضي عياض، وهذا الذي قلناه وصرّحنا به في درسنا، والإمام النووي لم يكن محققاً في باب العقائد؛ وذلك لانشغاله بالحديث وانشغاله بالفقه، فلم يكن بلغ مبلغاً متيناً في مسائل العقيدة أو كما يقولون: في أبواب الكلام أو مسائل الكلام.
ذكرت مقولة في كتاب المهمات.
قال: اعلم أن الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله حينما تأهل للنظر والتحصيل.
أي أنه لم يتأهل بعد، ولكنه رأى من المسارعة إلى الخيرات أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفاً ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنفيه تحصيلاً، وتحصيله تصنيفاً.
أي: أنه يعيب على الإمام النووي أنه بادر وسارع إلى الكتابة وإلى التصنيف والتأليف قبل أن يتأهل، خاصة في هذا العلم.
وقد كتب الإمام النووي في الفقه وشرح كتب الصحيح كـ البخاري ولم يتمه، وكذلك صحيح مسلم وأتمه، وكان لزاماً عليه أن يتعرض لبعض المسائل العقدية خاصة في كتب الإيمان والتوحيد، وأن يتعرض إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، فإنه تعرض لكثير من المسائل التي خالف فيها المبتدعة أهل السنة والجماعة.
فقال: الإمام النووي لم يكن تأهل بعد للكتابة في هذه المسائل؛ فاستعجل وصنّف وكتب في هذا الباب ولمّا يتأهل بعد، فهذا الذي أوقعه فيما أوقعه فيه من شر، ومن مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة.
هذا كلام نستفيد منه أن المرء ينبغي عليه ألا يتعرض لهذا الأمر إلا بعد أن يتأهل لما يكتب ويصنّف، وكذلك إذا تأهل ينبغي عليه ألا يخرج إلى الناس بما عنده من علم وكتابة إلا بعد أن يجيزه الشيوخ، ورحم الله تعالى الإمام مالكاً حيث قال: ما جلست في مجلسي هذا -أي: مجلس الإفتاء- إلا بعد أن أجازني سبعون عالماً من أهل المدينة، بخلاف ما نحن عليه الآن، فإن هناك آلافاً من الإخوة يقولون لأخ مثلهم: أنت شيخ وأنت عالم وأنت محقق وأنت مدقق، وهذا بخلاف ما كان عليه أهل السنة سابقاً، فإنما كان يجيز العلماء التلاميذ، وأما الآن فإن التلاميذ يجيزون بعضهم البعض.
قال: وأما الرافعي فإنه سلك مسلك الطريقة العالية -أي: المحمودة- فلم يتصدر للتأليف إلا بعد كمال انتهائه، أي: بعد تحصيله للعلم، وكذا ابن الرفعة رحمة الله عليهما.
السبب الثالث هو: أن الإمام النووي عليه رحمة الله ولد في عصر قريب عهد بانتشار مذهب الأشاعرة، ومن المعلوم أن ظهور أي مذهب يجعل له الغلبة على عقول الناس خاصة إذا تبناه الحُكّام.
فإن مذهب المعتزلة مثلاً حينما ظهر أقنع به أصحابه دولة بني العباس، فكان هذا سبباً لظهور مذهب الاعتزال، وأثر ذلك على أصحاب الحق كالإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فعانوا ما عانوه، وقاسوا ما قاسوه بسبب نصرة الحكام لهذا المذهب، وفي هذا الزمان مذهب التصوف ومذهب التشيُّع كذلك منتشر لا أقول بسبب التبني، وإنما محمي عند الطلب إلى حد ما، فإنهم يقولون: احرسوا مولد السيدة زينب، احرسوا مولد الحسين، احرسوا مولد السيد البدوي، حتى يأتي هذه الموالد الملايين -فاجتماع هذه الملايين لا شك أن فيه فتناً عظيمة لعوام الناس ورعاء الناس وسقطهم.
فكذلك مذهب الأشاعرة انتشر وفاح وذاع في عصر ولد فيه الإمام النووي وطلب فيه العلم، مما كان له التأثير العظيم على كثير من علماء ذلك الزمان، منهم عياض وأبو عبد الله المازري، ونحن نعلم أن الإمام النووي تأثر بهما أيما تأثر في شروحه وفي كلامه وفي عقيدته، بخلاف تلميذه ابن العطار فقد كان متأخراً عنه في السن، وتأثر بالإمام النووي تأثيراً عظيماً، حتى كان يقال عن ابن العطار: هذا مختصر النووي، أو هذا النووي الصغير.
فالإمام ابن العطار تأثر بشيخه الإمام النووي، ولكنه تهيأ للإمام ابن العطار ما لم يتهيأ لشيخه الإمام النووي؛ وذلك لأن جُل شيوخ الإمام النووي من الأشاعرة فتأثر بهم، وهذا التأثر طبيعي، والإنسان جزء من مجتمعه، يتأثر ويؤثر، أما ابن العطار فقد تهيأ له من الشيوخ والعلماء ما لم يتهيأ لشيخه الإمام النووي، فقد تهيأ للإمام ابن العطار ابن تيمية عليه رحمة الله وكفى به، ولا أقول: إنه أدرك ابن تيمية، ولكني أقول: إنه تأثر به وبتلاميذه، منهم الإمام الذهبي، فقد كان الإمام الذهبي أخاً لـ ابن العطا