[باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه]
الباب التاسع عشر: (باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه).
أي: باب: جواز ربط الأسير، وجواز حبس الأسير، والمن عليه بإطلاق سراحه.
وهذا هو المعنى المتبادر الأول من كلمة المن، بخلاف العطية، فالعطية في باب الصدقات عند الإطلاق، كما قال الله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:٢٦٣]، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب) والمنان الذي يعطي الإنسان عطية ويمن عليه: أنا يوم كذا أعطيتك كذا، ويوم كذا أعطيتك كذا.
والمن في القرآن كذلك بمعنى: الطير.
قال تعالى: {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:٥٧]، والسلوى: هي الحلوى وهو طعام بني إسرائيل الذي أعطاهم الله تعالى إياه.
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد -وهو المقبري - أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبل نجد)] والخيل: هي السرية، عبّر هنا بالخيل عن السرية، ونجد هي المعروفة الآن بالرياض والمدن المجاورة لها.
قال: [(فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة -واليمامة من بلاد نجد- فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟!)] تصور أن مسئولاً كبيراً يؤتى من خلفه ويُربط في عمود من أعمدة المسجد، فهذا موقف عز عظيم جداً، ولم يأت هو ليهاجمهم فأسروه، ولكنهم هم الذين ذهبوا وأتوا به، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطه في سارية المسجد -أي: في العمود- وبعد كل فترة يمر عليه فيقول: [(ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي يا محمد! خير إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر)] هو مشرك، ولكنه كلام موزون جداً؛ ولذلك لم يحز السيادة في العرب إلا من كان أهلاً لها.
قال: يا محمد أنا بخير، إن أردت أن تمن عليّ بفكاك الأسر فستجدني لك شاكراً، وإن قتلتني فأنا عظيم في قومي صاحب دم، ولا يمكن لمن ورائي أن يفرطوا في دمي.
وهذا يدل على أن لديه عزاً مع أنه مشرك.
يقول له: فأنت لو قتلتني لن يتركوك قومي، فكأنه يريد أن يقول هذا، وهذا أرجح الأقوال في معنى ذلك.
وهناك أقوال أخرى سنتعرف عليها.
قال: [(وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة)] حتى تعلم أننا لن نقتلك ولا نريد منك المال، لكي تعرف أننا أفضل منك، وهذا من عليه.
قال: [(فانطلق إلى نخل قريب من المسجد -أي: بستان قريب من المسجد النبوي- فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)].
أرأيتم هذا الكلام الجميل! فهو خشي أن ينطق بهذا وهو في الأسر حتى لا يقولوا: إن هذا مجرد خوف، وما أسلم إلا فراراً من القتل! فالسيد يظل سيداً طيلة عمره، والسيد لا يصلح أن يكون عبداً في أخلاقه وأدبه، فهذا الرجل أبى أن يُسلم في حال الأسر، حتى لا يقال: إن الحامل له على الدخول في الإسلام الخوف والرعب.
وأيضاً يرد بقوة فيقول: فأنت لو قتلتني فلن يتركوك قومي، فاغتسل ثم دخل المسجد فنطق بالشهادتين ثم قال: [(يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي)] وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
قال: [(والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة)] أي قد كنت أتيت لأجل العمرة، وهذا يدل على أن الحج والعمرة نسك قديم منذ زمن إبراهيم عليه السلام.
وقيل: منذ زمن آدم عليه السلام، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام حج مرتين قبل البعثة على ملة إبراهيم عليه السلام، فالمشركون كانوا يحجون ويعتمرون إلى البيت.
قال: [(وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟)] أي: بماذا تشير علي؟ هل تأمرني بالذهاب إلى العمرة؟ وهذا أدب شديد؛ لأنه علم أنه بجوار النبي صلى الله عليه وسلم ليس سيداً، بل هو مؤتمر بأوامره منته عما نهاه عنه.
قال: فماذا ترى يا رسول الله؟! قال: [(فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: