أما الإمام مسلم فقد حاز مكانة عالية ومنصباً رائعاً عند أهل العلم، فأثنوا عليه بكلمات هي أحلى من العسل، فقال شيخه إسحاق بن منصور الكوسج في حقه: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.
هذا كلام خرج من الشيخ لتلميذه، فإذا كان الأمر كذلك فما بالكم بالشيخ القائل لهذه المقولة؟ فإن إسحاق بن منصور الكوسج رباه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وهاهو يقول هذا الكلام الطيب العذب في الإمام مسلم، وهذا يدلنا على مكانة مسلم عند الأئمة من شيوخه وأساتذته، فإذا كان هذا الإمام بهذه المنزلة عند شيوخه فلا شك أنه لا بد أن يكون أعظم من ذلك عندنا.
وقال أيضاً إسحاق بن راهويه وهو شيخه كذلك: أي رجل يكون هذا؟ يعني: يستبشر له بمستقبل باهر مذهل، أي: لو عاش هذا الرجل فإنه سيكون له أمر عظيم.
وقال ابن أبي حاتم: كان مسلم ثقة من الحفاظ، كان ابن أبي حاتم وأبوه أبو حاتم يأتون بألفاظ الجرح والتعديل بلطف شديد جداً، فإذا قال أبو حاتم: صدوق فإنما هذا يعني عنده: أنه ثقة؛ وذلك لأن أبا حاتم نفسه قال: مسلم بن الحجاج صدوق، فأنت إذا وقفت على هذه الكلمة فستقول: كيف يكون صدوقاً وهو إمام متقن! فهذه الكلمة عند الإمام أبي حاتم تعني ما فهمت أنت: أنه إمام متقن، ولذلك لا بد من معرفة مصطلحات أهل العلم؛ لأن فيها معرفة كيفية الحكم على الرجال وعلى الرواة وعلى الأحاديث كذلك، فمثلاً الإمام البخاري إذا قال في الراوي: فيه نظر، فهو ضعيف، وإذا قال: ضعيف فلا تحل الرواية عنه؛ لأن خبره منكر.
وقال ابن بشار وهو محمد من شيوخ الإمام مسلم أيضاً: حفّاظ الدنيا أربعة -أي في ذلك الزمان-: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، والبخاري ببخارى، والدارمي بسمرقند، فعد من بين حُفّاظ الدنيا في ذلك الزمان مسلماً بنيسابور، وقدّمه على شيخه محمد بن يحيى الذهلي، وربما كان ذلك لاتساع رحلة الإمام مسلم.
وهذا أيضاً من بركة الرحلة والحفظ، وقدّمه ابن عقدة على البخاري في روايته عن أهل الشام على جهة الخصوص، وقال: إن البخاري إنما كان يهم أحياناً في روايته عن أهل الشام، وليس كلامه هذا صحيحاً، ولكنه على أية حال قدّم الإمام مسلماً في روايته عن أهل الشام على الإمام البخاري، وكذلك فعل المغاربة، فإنهم قدموا صحيح مسلم على صحيح البخاري، وسنعرف وجه هذا الكلام إن شاء الله تعالى بعد قليل.
وأثنى عليه كذلك أبو عبد الله بن الأخرم، وابن الصلاح أثنى عليه خيراً في كتابه على صحيح مسلم الذي سمّاه صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط، قال: كان له في علم الحديث أضراب لا يفضلهم وآخرون يفضلونه، فرفعه الله تبارك وتعالى بكتابه الصحيح هذا إلى مصاف النجوم، وصار إماماً حجة يبدأ به ويعاد في علم الحديث وغيره من العلوم النافعة.