[التعصبات بين مذاهب أهل السنة والجماعة أمر مذموم]
قال القاضي عياض: استدل أصحاب الشافعي بهذا الحديث على فضيلة الشافعي.
وذلك لأنه قرشي.
والحديث نص في الإمارة والشافعي ليس أميراً، كما أن الحديث نص في أفضلية قريش، فهو من هذا الباب فقط يثبت فضيلة الشافعي؛ لأنه قرشي.
وقد وقعت مهاترات وتعصبات بين أصحاب المذاهب، حتى دعاهم هذا التعصب إلى الافتراء والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فالأحناف والشافعية عداوتهم معلومة على مر التاريخ إلى يومنا هذا، حتى في الأزهر ينظر الشافعي إلى الحنفي كما لو كان يهودياً، وفي زمن من الأزمان كان لا يتزوج الشافعي من الحنفية، ولا الحنفي من الشافعية، وإذا رُفع الأمر إلى القاضي فإنه ينتحل مذهباً يخالف مذهب القضية المرفوعة إليه، ومعلوم أن الكعبة لها أربعة أركان، فكان الأحناف يجلسون في ركن، والمالكية في ركن، والشافعية في ركن، والحنابلة في ركن، والذي يفاجأ أنه صلى في جماعة الحنابلة وهو شافعي يرجع فيعيد صلاته.
وهذا شر مستطير وتفريق للأمة.
وأدى هذا التعصب إلى أن افترى الأحناف حديثاً كذباً وزوراً على النبي عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (فيكون في أمتي رجل هو أبو حنيفة سراج أمتي) أو: (سراج أمتي أبو حنيفة النعمان).
وهما حديثان مكذوبان.
وبعد أن أثبتوا الفضل لإمامهم أرادوا ذم الشافعي ليستمر لهم الكمال، فقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيخرج رجل من أمتي محمد بن إدريس أشد عليها من إبليس).
يقصدون الإمام الشافعي، اسمه محمد بن إدريس، ومعلوم أن أبا حنيفة مات سنة (١٥٠) هـ، والشافعي ولد في نفس السنة، فقال الأحناف: حينما ولد إمامكم أبى إمامنا الحياة، كأنه هو الذي أمات نفسه.
ويقول الشافعية رداً عليهم: حينما ولد إمامنا أبى إمامكم الحياة؛ لأنه لا يهنأ له الحياة في ظل إمامنا وهو طفل رضيع! فكل هذه تعصبات لا قيمة لها، فـ أبو حنيفة ليس قرشياً، بل هو كوفي، وأحمد بن حنبل ليس قرشياً، بل هو بغدادي، ومالك ليس قرشياً بل هو مدني، أما الشافعي فهو قرشي، فهو من هذه الجهة أفضل من الأئمة الثلاثة، ومن جهة الفقه كذلك هو أفقه من الثلاثة، أما منزلته عند الله فالعلم عنده سبحانه، فالله تعالى أعلم بمن اتقى، فإن الإمام أحمد بن حنبل له من العلم والفضل والثبات في المحن ما ليس للشافعي، فهو إمام أهل السنة بالاتفاق.
وأما تقرير مسائل للاعتقاد فقد اشتهر به الإمام مالك رحمه الله تعالى، فهو الذي عاصر ابتداء ظهور البدع والفتن في العقيدة، وفي صفات المولى عز وجل، فقرر مسائل الاعتقاد على مذهب الصحابة والتابعين، ثم برز على هذه الأصول بعد ذلك من جاء بعده كـ الشافعي، فـ الشافعي تلميذ مالك، بل صحبته أمه من مكة إلى المدينة وعنده من العمر عشر سنوات، فقدم إلى الإمام مالك وقال: يا إمام! أريد أن أقرأ عليك الموطأ، فنظر إليه الإمام واستصغره.
قال: اذهب فالتمس من يقرأ لك.
فقال: يا إمام! أحفظ الموطأ عن ظهر قلب.
قال: أنت؟ قال: نعم.
قال الشافعي: فقرأته عليه في أربعة مجالس.
أي: من حفظه سرده سرداً على الإمام في أربعة مجالس.
فسُر به مالك جداً وقرّبه إليه وكان مستملياً له.
أي: أنه يجلس بجواره ويقرأ، والإمام مالك يشرح الموطأ.
وكذلك الإمام أحمد كان تلميذاً للشافعي.
فالأول أبو حنيفة؛ ولذلك يسمونه الإمام الأعظم.
أي: أكبرهم وأولهم، والمكان الذي كان يسكن فيه في العراق يسمى إلى الآن بالأعظمية؛ نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، ورضي عنهم أجمعين.