[قدرة الملائكة على التشكل والانتقال بسرعة]
وهب الله تبارك وتعالى الملائكة القدرة على التشكل والتلون، فقد أرسل الله تبارك وتعالى جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة بشر، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:١٦ - ١٧]، فقوله تعالى: ((فَتَمَثَّلَ لَهَا))، أي: صار مثل البشر، وتشكل في صورتهم، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:١٨].
ومعنى الآية: قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً فابعد عني ولا تمسني بسوء وأذى؛ لأنها لما رأته في صورة بشر ظنته من البشر ولم تظنه جبريل ولا الروح الأمين، فاستعاذت بالله من شر الإنس، {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:١٩].
وإبراهيم عليه السلام جاءته الملائكة في صورة بشر، ولم يعرف أنهم ملائكة حتى كشفوا له عن حقيقة أمرهم.
وجاءوا إلى لوط في صورة شباب حسان الوجوه، وضاق لوط بهم، وخشي عليهم قومه؛ لأنهم كانوا يأتون الذكران شهوة من دون النساء، والملائكة أحسن صورة من البشر، ولذلك خاف لوط عليه السلام أن يفضح بين أضيافه من فعل قومه، فقد كانوا قوم سوء يفعلون السيئات ويأتون الذكران من العالمين، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:٧٧]، يعني: أن هذا اليوم لن يمر على خير إن رآكم قومي الذين أرسلت فيهم.
يقول ابن كثير: تبدى لهم الملائكة في صورة شباب حسان امتحاناً واختباراً حتى قامت على قوم لوط الحجة، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
وقد كان جبريل يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة، فتارة يأتيه في صورة دحية بن خليفة الكلبي الصحابي، وقد كان جميل الصورة جداً، وتارة في صورة أعرابي كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد أن السائل الذي جاءه وسأله هذه الأسئلة عن الإيمان والإحسان وأشراط الساعة، هو جبريل؛ ليعلمهم دينهم.
وقد رأت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم واضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبي -أي: عرف الفرس- ودحية الكلبي راكب عليه يحدث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سألته عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل، وهو يقرئك السلام.
فهي تصورت أنه دحية، ولكنه جبريل.
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن سعد بسند حسن.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأنه لما هاجر تائباً جاءه الموت في منتصف الطريق، وهو مسافر إلى الأرض التي هاجر إليها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فحكموا بينهما ملكاً أرسله الله تبارك وتعالى إليهم في صورة آدمي، يقول عليه السلام: (فجاءهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو لهم).
وهم إنما حكموه بأمر الله تبارك وتعالى.
والقصة في صحيح مسلم في باب التوبة.
وكذلك جاء في قصة الثلاثة الأبرص والأعمى والأقرع الذين ابتلاهم الله تبارك وتعالى من بني إسرائيل أن الملك تشكل بصورة كل منهم، وأتى كل واحد منهم على حدة.
وهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى منح الملائكة القدرة على التشكل والتلون.
وأما عن عظم سرعتهم فإنهم بلغوا الذروة في السرعة، فقد كان السائل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فينزل جبريل عليه السلام بالجواب من السماء قبل أن ينصرف السائل، وهذا قد ورد في مناسبات كثيرة جداً.