[كتمان العلم مخافة اتكال الناس على سعة رحمة الله من هدي السلف رحمهم الله]
وفعل أبي أيوب الأنصاري هذا وهو على فراش الموت فعل غير واحد من الصحابة، كـ أبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر وغيرهم، فقد كان عندهم من العلم ما كتموه طيلة حياتهم، حتى إذا أشرف أحدهم على الموت حدث به تأثماً، وليس كتمان العلم جائزاً مطلقاً، كما أن إفشاء العلم ليس جائزاً مطلقاً.
فهدي العلماء أن العلم لا يبث إلا في أهله وفيمن يستحق، فلا يعلم كل أحد، وإنما يعلم من يصون هذا العلم، علماً وعملاً واعتقاداً، أما المستهزئون فإنهم لا يتعلمون، بل لا ينفعهم العلم، وهؤلاء سقط الناس ورعاعهم الذين لا يقدرون العلم والعلماء، وعليه فما قيمة أن يعلموا العلم؟ قال مالك يوصي بعض طلاب العلم لما ودعه مسافراً: أوصيك أن تأخذ العلم من أهله وأن تضعه في أهله.
أي: خذ العلم من العلماء، وضعه في أقوام هم له أهل، وإنها وصية غالية جداً، لا يعلم معناها إلا مالك ومن كان على شاكلة مالك، رحم الله جميع علمائنا.
كذلك: حديث أبي هريرة الطويل في صحيح مسلم، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (اذهب خلف هذا الحائط، فمن وجدته يشهد أن لا إله إلا الله فبشره بالجنة، فكان أول من وجده: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: قال لي النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا هريرة! اذهب خلف هذا الحائط فمن وجدته يشهد أن لا إله إلا الله فبشره بالجنة.
فقال أبو هريرة: فضربني عمر ضربة خررت منها على استي، وقال: لا تفعل، فذهب أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: قد فعلت ما قلت يا رسول الله! وقد حصل من أمر عمر كذا وكذا، وكان عمر في إثره، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عمر! ما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله! مخافة أن يتكلوا، دع الناس يعملون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعهم يعملون).
أيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! اذهب فقل للناس: من كان يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله موقناً بها قلبه فبشره بالجنة).
فقال أبو ذر عند موته: حدثني النبي صلى الله عليه وسلم بحديث كتمته عنكم، وما أحدثكم إلا تأثماً، أي: مخافة الوقوع في إثم كتمان العلم.
إذاً: العلم يكتم أحياناً لمصلحة مخافة أن يتكل الناس على أحاديث الرجاء أو آيات الرجاء، كما أن العلم لا بد من بثه في وقت معين إذا تعين ذلك، وربما هؤلاء سمعوا أحاديث من النبي عليه الصلاة والسلام لم يسمعها غيرهم، فتعين عليهم البلاغ، لكنهم كتموا هذا العلم وقتاً من الزمان؛ مخافة اتكال الناس على سعة رحمة الله، فيدعون العمل، ثم إنهم حدثوا به في وقت غلب على ظنهم أنهم بعد هذا الوقت يموتون ويموت معهم العلم الذي كتموه؛ لأنه ليس مع غيرهم، فحدثوا به مخافة الوقوع في الإثم.
قال النووي: إنما كتموه أولاً مخافة اتكالهم على سعة رحمة الله تعالى، وانهماكهم في المعاصي، وإنما حدث به عند وفاته لئلا يكون كاتماً للعلم، وربما لم يكن أحد يحفظه غيره، فتعين عليه أداؤه، وأصبح فرض عين عليه أن يؤديه وأن يحدث به، وهو نحو قوله في الحديث الآخر: وأخبر بها معاذ تأثماً عند موته.
أي: خشية الإثم بكتمان العلم.