[بشرى توبة الله عز وجل على كعب وصاحبيه وما يشرع فيه من شكر النعمة]
قال: [(فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا، ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا: قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت)].
يعني: رغم اتساع الأرض إلا أنها في نظري ضيقة جداً.
قال: [(سمعت صوت صارخ أوفى على سلع).
سلع: اسم جبل في المدينة، وقد كان هذا الجبل بين المسجد النبوي، وبين بيوت الأنصار الذين كان منهم كعب بن مالك، فكان كعب جالساً على السطح بعد أن صلى الفجر؛ يقرأ الأذكار، وكان بيته بعيداً عن المسجد، وفي هذا جواز التخلف عن صلاة الجماعة لمن كان بيته بعيداً يشق عليه أن يلحق الجماعة، أو أنه لا يسمع الأذان.
قال: [(سمعت صوت صارخ أوفى)].
أي: ظهر على جبل سلع.
قال: [(يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج)].
وفي هذا استحباب أن يسجد المرء سجود الشكر إذا نزلت به نعمة، أو كشفت عنه بلية، وسجود الشكر لا يلزم له وضوء، ولا استقبال قبلة، ولا تسليم فيه، ولا تكبير، وهو كسجود التلاوة في صفته.
قال: [(فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، قال: فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا)].
أي: لما نزل الوحي بثبوت توبتنا؛ أعلم صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه التوبة.
قال: [(حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرساً)].
يعني: مسرعاً وهو راكب فرسه، وفرحة الصحابة هذه تدل على الحب في الله، والبغض في الله، فلم يكن هذا الأمر فرصة للذي كان غاضباً من كعب أن يصر على خصومته لـ كعب.
قال: [(فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرساً، وسعى ساعٍ من أسلم قبلي، وأوفى الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس)].
فهذا الرجل من فرط فرحته وسعادته بتوبة الله عز وجل على صاحبه؛ صاح وهو راكب الفرس حتى سبق الصوت الفرس، فسمع كعب البشارة ولم ير المبشر.
وهذا يدل على أن المرء يقاس بحسناته وسيئاته، ولذلك فالأعمال يوم القيامة توزن بميزان حقيقي لا مثيل له، فيوزن المرء بعمله، أو يجسد الله عز وجل الأعمال أجساماً فيزنها، أو يزن الأعمال باعتبارها من المعاني لا من المحسوسات، والله عز وجل على كل شيء قدير.
قال: [(فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني؛ فنزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته)].
أي: مكافأة، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠]، فهذا الرجل بشره، فخلع ثوبيه وألبسهما هذا الذي جاء يبشره، وفي هذا استحباب رد الجميل، فمن حسن الخلق أن يهدي المرء من أهداه، ويكافئ من أحسن إليه.
قال: [(فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
يعني: أقصد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة، ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك)].
يعني: هنيئاً لك يا كعب! توبة الله عز وجل عليك.
قال: [(حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني)].
يهرول من فرط فرحته.
قال: [(والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لـ طلحة)].
أي: لما دخل المسجد قام إليه واحد فقط من بين الناس، وهرول وأسرع إليه وهو يجر إزاره يهنئه، ويبشره بتوبة الله عز وجل عليه، فكان كعب بن مالك يحفظ هذا الجميل لـ طلحة بن عبيد الله، فالنفوس والقلوب أسيرة لمن أحسن إليها.
قال: [(فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك)].
أي: يقول له: إن اليوم هذا هو بالنسبة لك يا كعب أحسن يوم في حياتك، وفي حقيقة الأمر أن أحسن يوم هو يوم أن أسلم كعب، ولكن لبداهة ذلك لم يذكره النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فقلت: أمن عندك يا رسول الله! أم من عند الله؟)].
يعني: هذه التوبة من أين أتت من عندك أنت يا رسول الله! أم من عند الله؟ قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا، بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه عليه الصلاة والسلام)].
يعني: بدا على وجهه النور.
قال: [(كأن وجهه قطعة قمر صلى الله عليه وسلم، قال: وكنا نعرف ذلك)].
يعني: كنا إذا فرح عرفنا أنه مسرور، وإذا غضب فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان.
قال: [(فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله! إن م