[شرح جواب الإمام مالك لمن سأله عن معنى الاستواء]
ولما سئل الإمام مالك عليه رحمة الله تبارك وتعالى عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، كيف استوى؟ أطرق برأسه إلى الأرض ثم رفعه وقال: (الاستواء غير مجهول)، وغير مجهول يساوي أنه معلوم، ومعنى أنه معلوم أي: معلوم المعنى.
فالاستواء غير مجهول، أي: معلوم المعنى، ولا نقول: معلوم الكيف؛ لأننا نفوض الكيف إلى الله عز وجل، وأما معنى الاستواء فمعلوم عند العرب.
وكلمة استوى لم تأت في لغة العرب إلا معداة بعلى، أي: استوى على، وعلى في اللغة تفيد العلو والارتفاع، فدل ذلك على أن معنى استوى في الكتاب والسنة بمعنى علا وارتفع.
فمعنى الاستواء معلوم، وهو العلو والارتفاع، وهذا معنى قول الإمام مالك: الاستواء غير مجهول، أي: معلوم المعنى، وهو الارتفاع والعلو، فالاستواء غير مجهول.
(والكيف غير معقول)، أي: أن العقول لا تدرك كيفية ذلك، ولذلك خبأها الله تعالى على الخلق رحمة بهم؛ لأن الله تعالى لو وصف لنا كيفية استوائه فإن بعض العقول ستصدق ذلك، وبعض العقول سترد ذلك، ولذلك فرض الله تعالى علينا أن نؤمن بأنه استوى، ولم يبين لنا الكيف؛ لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية وجب الكف عنها.
ثم أتبع ذلك الإمام مالك بقوله: (والإيمان به واجب)، يعني: لابد من الإيمان باستواء الله عز وجل وبمجيئه ونزوله عز وجل وغير ذلك من الصفات كما جاءت، وإمرارها دون الخوض في تأويلها وتحريفها وتعطيلها؛ لأن الله أخبر به عن نفسه فوجب تصديقه.
(والسؤال عنه بدعة)، أي: السؤال عن كيفية الاستواء أو عن كيفية النزول والمجيء وغير ذلك من الصفات إما أن يكون سؤال متعنت فهو بدعة، وإما أن يكون سؤال جاهل فينبغي أن يوجه إلى عدم السؤال عن هذين الأمرين، وأنه يحاسبه الله تعالى على عدم السؤال عليه، وإنما الذي يجب عليه أن يؤمن بأن الله تعالى يأتي وينزل ويستوي وغير ذلك، ويؤمن بهذه الصفات كما جاءت ويمرها، وهذا من فوائد الإيمان بالغيب.
والله عز وجل افترض على أهل الإيمان أن يؤمنوا بالغيب، وصفات الله تعالى غيبية، وإن كان لا يؤمن الشخص بالغيب فكيف يؤمن بالصفة، فهذا ابتلاء واختبار من الله تعالى لينظر هل نؤمن بصفات الله عز وجل دون أن نخوض فيها أم لا، فينبغي علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وآمنا بالله وصدقنا، وهذا قول أهل الإيمان.
والصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية أي صفة من صفات الله عز وجل، وهم أسوة وسلف وقدوة لنا بعد النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد أن نكون مثلهم، خاصة في أمور الغيب.
فهم لما سمعوا قول الله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤] عرفوا عظمة الله تبارك وتعالى، ولم يسألوا عن كيفية الاستواء؛ لأنهم عرفوا أن المقصود بهذه الآية هو العلو والعظمة والارتفاع.
وكلام الإمام مالك رحمه الله تعالى ليس خاصاً بصفة الفوقية فقط، وإنما هو كلام عام وميزان أصيل توزن به جميع الصفات، لا تسأل عن الكيفية، ولكن سل لتعلم معنى الصفة، فلو قلت: ما معنى استوى؟ ف
الجواب
علا وارتفع، ولو قلت: كيف استوى؟ لقلنا: إنك مبتدع أو جاهل.
السؤال عن معنى صفات الله جائز، بل هو من أشرف العلوم وأعلاها؛ لأنه متعلق بعلم التوحيد وعلم العقيدة، وهو من أشرف العلوم وأعلاها؛ لأنه متعلق بذات الله عز وجل، ثم يتلوه في الفضل علوم القرآن؛ لأنها متعلقة بكلام الله عز وجل، وهو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، فلما كان الله عز وجل أعلى كل شيء وأحسن من كل شيء دل ذلك على أن كل ما يتعلق بذاته وتوحيده يقدم على غيره من العلوم، ثم يتلوه كلام الله عز وجل، وهو كتابه القرآن الكريم، فكل ما يتعلق بالقرآن من تفسير وتلاوة وفك غريب وغير ذلك يأتي في المرتبة الثانية بعد ذات الله عز وجل؛ لأنه صفة من صفاته، والصفة تابعة للذات.
ثم يأتي بعد ذلك علوم السنة، وهي في الفضل والعظمة تتلو علوم القرآن، ثم يأتي بعد ذلك علوم الآلة من اللغة وغيرها وبقية علوم السنة وأصول الفقه وأصول الحديث، وهي التي تخدم علم الكتاب والسنة، ثم يتلوها بعد ذلك علوم الدنيا الطبيعية وغيرها.
فكلام الإمام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ فقل: النزول غير مجهول، أي: معلوم، فالله تعالى ينزل؟ والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل ينتقل؟ فنقول: السؤال هذا بدعة، إذ كيف تجيز لنفسك أن تسأل سؤالاً لم يسأله الصحابة رضوان الله عليهم؟ فهم أحرص منا على الخير وعلى العلم بما يجب لله تعالى، ولسنا بأعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم.
والإمام مالك رحمه الله رد على ذلك الرجل؛ لأنه سأل تعنتاً، فقال: ما أراك إلا مبتدعاً، ثم أمر به فأخرج من المسجد؛ لأن السلف كانوا يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضا