[ذكر الفوائد المستنبطة من باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه]
فوائد هذا الباب: إذا كان الغرض من الصدقة هو ثواب الآخرة، فكأن الراجع في صدقته قد آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وكأنه يقول بلسان حاله: ثواب الدنيا خير من ثواب الآخرة؛ ولذلك نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام.
ويلتحق بالصدقة والهبة الكفارات والأجور والزكوات وغيرها، فلو أن رجلاً عنده إبل، أخرج زكاة الإبل، أو غنماً أخرج منها خمس شياه، فوجد هذه الشياه بعد أن وصلت إلى يد الفقير يبيعها في السوق، هل يجوز له أن يشتريها؟ هل الزكوات من عقود الهبات أم المعاوضات؟ فكل خارج يخرج من يدك إلى الآخرين بغير عوض فهو من عقود الهبات، فالكفارات كلها بجميع أنواعها، والنذور بجميع أنواعها، والزكوات والواجبات والصدقات بعمومها وإطلاقها؛ كل هذه أموال تخرج من يدك بغير عوض، فحكمها واحد.
وأفاد الحديث كذلك: كراهة الرجوع في الصدقة، وبعضهم حرمه، قال: لفظ الحديث وظاهره يفيد التحريم، وذلك بضرب المثل، ثم هو ظاهر النهي، فقوله عليه الصلاة والسلام:(لا تبتعه يا عمر!) هنا نهي، والنهي يدل على التحريم، ما لم يصرفه صارف، لكن قال الجمهور: النهي هنا للتنزيه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهاه نهي إرشاد، فحملوا النهي على الإرشاد.
ودليل القائلين بأن النهي هنا للتحريم: المثل المضروب، فإن الراجع في هبته أو في صدقته كالكلب يرجع في قيئه، قالوا: وهذا زجر شديد جداً لا يستقيم مع الكراهة، إنما يستقيم مع التحريم.
والذي يترجح لدي أن الراجع في صدقته يحرم عليه ذلك.
كما أفاد الحديث: فضل الحمل في سبيل الله عز وجل للغزو والقتال والجهاد، والمعاونة على ذلك بشتى أنواع الحمل، لا يلزم أن تحمله على فرس، بل تجهيز الغازي في سبيل الله عز وجل بالمال كاف؛ لأن المال حمل، بالطعام كاف، بالفرس، بالطائرة، بالدبابة بغير ذلك مما هو في مقدور الحامل، فلو فعله لكان حاملاً في سبيل الله عز وجل؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام:(من لم يغز ولم يجهز غازياً، ولم تحدثه نفسه بالغزو، فمات يوم يموت إلا مات ميتة جاهلية).
ومن لا ينفع غيره، ولا تحدثه نفسه أن يشارك، فإلى متى يظل بهذا الشكل؟ لابد للإنسان أن يقعد مع نفسه مرة ويسأل نفسه: إلى متى نظل نسمع الدعاة يعظوننا في المشاركة في الجهاد، وليس عندنا أي استعداد أبداً للتجاوب مع أي دعوة؟ لا، لابد أن نستعد من الآن، حتى إذا أتى الوقت المناسب لا ننتظر حتى نستعد، ولا ينادى علينا للجهاد فنقول: لماذا الجهاد؟ وما الذي حصل؟ إذاً: ينبغي أن يظل الواحد منا يحدث نفسه عن الجهاد وضرورة الاستعداد له.
كما أفاد الحديث كذلك: أن الحمل في سبيل الله تمليك، فإذا أعطيتك فرساً فإن هذا الفرس ملكك؛ ولذلك لا يجوز لي أخذ هذا الفرس مرة أخرى، ولو بالبيع والشراء.
كما يجوز للمحمول على الفرس أن يبيعه، وأن ينتفع بثمنه، إما قبل الغزو والجهاد، وإما بعد الغزو والجهاد عليه، يستوي هذا وذاك.