[ثبوت الثواب والعقاب بالعقل وعدمه وخلاف أهل السنة مع المعتزلة]
والإمام النووي يقول: اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب، ولا إيجاب ولا تحريم.
فالثواب والعقاب، والجنة والنار، والواجب والمحرم، والمكروه وغير ذلك، يثبت عند المعتزلة بالعقل، فما حرمه العقل فهو الحرام، وما أحله العقل فهو الحلال، وما أوجبه العقل فهو الواجب، وما أباحه العقل فهو المباح، لأن العقل عند المعتزلة قاض وحاكم على النص، فالعقل أصل والنص فرع.
وأما أهل السنة والجماعة فليسوا كذلك، فالثواب عندهم لا يثبت إلا بنص، فالنص عندهم هو الأصل، ولا بد أن يتمشى العقل مع النص، وإذا حصل خلل وعدم توافق واتزان بين العقل والنص فالعلة في أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن النص غير ثابت، وإما أن العقل لم يدرك مراد الله تعالى بالنص، والعقل قاصر، فإذا أدرك معنى هذا النص؛ فربما عجز عن إدراك المراد من النص الثاني، وغير ذلك.
فالإمام النووي يقول: اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب، ولا إيجاب ولا تحريم، ولا غيرهما من أنواع التكليف، ولا تثبت هذه كلها ولا غيرها إلا بالشرع.
والشرع عبارة عن: قال الله قال رسوله، وقد أجمع أهل العلم على أن أدلة الشرع هي: القرآن والسنة والإجماع.
ومذهب أهل السنة والجماعة أيضاًَ أن الله تعالى لا يجب عليه شيء، تعالى الله عن ذلك، خلافاً للمعتزلة فهم يقولون: بل هذا واجب على الله، ويستدلون بحديث معاذ بن جبل الذي يقول فيه: (أتدري ما حق الله على العباد؟ حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، وهذا حق.
ثم قال: (أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ أن يدخلهم الجنة).
فالمعتزلة يقولون: إذا وحد العبد ربه؛ يجب على الله أن يدخله الجنة.
فهم يوجبون على الله عز وجل، وأما أهل السنة فلا يقولون بهذا الوجوب، بل يقولون: لا يحل لعبد أن يوجب على الله تعالى شيئاً، وأما قضية أن الله أوجب على نفسه ذلك فهذه قضية ثانية، ولذلك يقول: (أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟).
والذي أثبت هذا الحق على نفسه هو الله عز وجل، وأما المعتزلة فيقولون: للعبد أن يوجب على الله تعالى ما هو الأصلح.
وهذه المسألة محل نزاع عند المعتزلة، هل يجب على الله الصالح أم الأصلح؟ فقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة، وإن عملها كتبت سيئة)، وأما إذا عمل حسنة فله عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
فالمعتزلة يقولون: العشر حسنات في مقابل الحسنة هذا صالح، لكن الأصلح منه: سبعمائة، وإذا كانت الحسنات للحسنة التي عملها العبد تتراوح ما بين عشر وسبعين؛ فيجب على الله تعالى أن يعطيه السبعين؛ لأن السبعين هي الأصلح للعبد.
والذي قرره ربنا في باب الحسنات: أن الحسنة هي الحسنة نفسها، لكن ربنا جعل أدناها عشراً، والله تبارك وتعالى بعدله جعل السيئة بسيئة.
وأيضاً تفضل على عبده أنه إذا هم بها فلم يعملها؛ كتبت له حسنة، مع أنه في باب المباح لا له ولا عليه، ومع هذا تمنن الله تبارك وتعالى وتحبب إليه بأن جعل ذلك له حسنة مع أنه لم يعملها.
فقول المعتزلة بوجوب الأصلح على الله عز وجل؛ يلزم منه أن يعطي في مقابل الحسنة سبعمائة حسنة، ومذهب أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه شيء تعالى الله عن ذلك، بل العالم ملكه، والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيهما ما يشاء، فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار؛ كان عدلاً منه، وإذا أكرمهم ونعَّمهم وأدخلهم الجنة؛ فهو فضل منه، وإن عذبهم فليس بظالم لهم، ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك؛ لأنه ملكه، يفعل فيه ما يشاء، ولكنه أخبر -وخبره الصدق- أنه لا يفعل ذلك.
فعندما يأتي شخص ويقول: أليس في ملك ربنا يوم القيامة أن يتوب على الكافرين ويدخلهم الجنة؟
الجواب
نعم بيده ذلك؛ لأن الملك ملكه، فهو بيده كل شيء يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، لكن الله تبارك وتعالى الذي بيده كل شيء هو الذي أخبر أنه لا يغفر لهؤلاء، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨].
فما دون الشرك كالكبائر والصغائر والبدع ما لم تبلغ مرحلة الكفر، فكل ذلك في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وأما الشرك فإن الله تعالى قضى في كتابه، وأخبر رسوله في سنته أنه لا يغفره ألبتة، مع أنه بإمكانه أن يغفره كبقية الذنوب، لكن الله تعالى استثناه من عموم المغفرة، فالأخبار تحتاج منا إلى تصديق، والآيات تحتاج منا إلى تنفيذ وعمل، فالله تعالى أخبر أنه لا يغفر للمشرك؛ فيجب علينا تصديق ذلك الخبر.
ولو أنعم على الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر -وخبره صدق- أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته، ويعذب المنافقين والكفار ويخلدهم في النار؛ عدلاً منه سبحانه.
وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل لا بالشرع، هذا واجب