[باب صحة الإقرار بالقتل]
الباب العاشر (باب صحة الإقرار بالقتل).
يعني: لو أتى شخص وقال: أنا قتلت.
صح إقراره، ويثبت عليه الحكم؛ لأن الإقرار سيد الأدلة، فهذا الإقرار وإن كان كلاماً ليس منصوصاً عليه في الشرع لكنه على أية حال كلام شرعي.
والإقرار له شروط: أن يكون المقر بالغاً، عاقلاً، سليماً من الآفات.
فلا يصح إقرار المجنون على نفسه أنه قاتل؛ لأن المجنون يقول كلاماً يضره وهو لا يدري أنه يضره، فالإقرار إما ابتداءً أو ادعاءً.
ابتداءً يعني: هو لما قتل أتى إلى القاضي وقال: أنا قتلت.
مثل المرأة الغامدية لما زنت، أتت من طور إراداتها، وقالت: يا رسول الله! فجرت فلا تفعل معي كما فعلت بـ ماعز بالأمس.
يعني: لا تقررني مثلما قررت ماعزاً بالأمس، أنا أتيت أقول لك: أنا فجرت فطهرني، وأعرف ما معنى أني فجرت، وأيضاً أنا حبلى من الزنا.
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يفعل معها كما فعل مع ماعز.
قال لها: اذهبي حتى تضعي الحمل.
لم يقل: ما هذه الفضيحة؟ وزوجها سوف يطلقها، وبيتها سوف يخرب، والعائلة سوف تتشرد، أو لا بد أن تذهب إلى دكتور يجهضها.
لا.
إنما حافظ النبي على حرمة الجنين حتى وإن كان ماؤه هدراً -لأنه من زنا- فأمر ووصى أولياء المرأة بالمحافظة على المرأة وعدم المساس بها أو التعرض لها بأذى حتى تضع الحمل.
فرجعت مرة ثانية، وهذا من إصرارها على التوبة، فأتت بولدها بعد عامين وفي يده كسرة خبز، وقالت: أقم علي الحد، حينئذ أقام النبي عليه الصلاة والسلام عليها الحد، وأثبت المغفرة لها، وأنها من أهل الجنة فقال: (لقد تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لقبل منهم).
ومعلوم أن الله تعالى يقبل توبة من تاب، فحينئذ لو أقر الإنسان ابتداءً بين يدي الحاكم أو القاضي أو السلطان، أو من أنيط به إقامة الحد وفصل المنازعات ووضع القضاء، وقال له: أنا فعلت كيت وكيت.
فالواجب على الحاكم فقط أنه يتأكد أن عقله سليم أم لا، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال عن ماعز: (أبه جنون؟ قالوا: والله ما به جنون.
قال: لعله سكر -أي: الرجل ممكن أنه كان سكران- ثم أدناه النبي منه حتى استنكهه).
يعني: شم ريحة فمه بنفسه عليه الصلاة والسلام من أجل أن يتأكد أنه خالٍ من العوارض كلها، فإن خلا من العوارض قامت عليه بعد ذلك الحجة، ولزمه إقراره.
والإقرار ابتداءً، هو من غير أي دعوى، كأن يذهب إلى الحاكم ويقول له: أنا حصل مني كيت وكيت، ويطلب منه أن يقيم عليه الحد، وهذا إقرار ابتدائي.
أما الإقرار الدعوي فهو لم يقر إلا بعد أن أقيمت عليه الدعوى، ففي هذه الحالة الإقرار معتبر في كل الأحوال.
وفي سحب الإقرار نزاع بين أهل العلم، كأن يقر شخص أنه قتل وحكم عليه بالإعدام، لكن عند التنفيذ العملي لما رأى حبل المشنقة، قال: لست قاتلاً، إنما القاتل فلان، وسأورد لكم الأدلة.
في هذه الحالة الإقرار غير معتبر، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، إذا رجع المقر عن إقراره وأقام البينة على ذلك لم يكن هناك اعتبار لإقراره الأول، لكن بشرط البينة والأدلة، وهذا الكلام سوف نأتي إليه بإذن الله.
فقوله هنا: (وتمكين ولي القتيل من القصاص).
أي: إنما يقتله السلطان، ولا بأس أن يقتل ولي القتيل القاتل، لكن ذلك لا يكون إلا بأمر السلطان؛ لأن القتل له مؤهلاته، وله أسبابه وفقهه، وله أحكامه، فقد يكون القاتل مجنوناً فمن قتله ثأراً فإنما هو قتل غير شرعي، والذي يعمل في الصعيد نوع من هذا، وهو من الهمجية، وإن كانت الهمجية القديمة أحسن مما نحن فيه، فالهمجية التي تكون بحكم القبائل فيها شيء من الشرع، بخلاف الذي نحن عليه ليس فيه رائحة الشرع، فالناس لا يلتزمون بالشرع في الغالب، إنما يلتزمون بظواهر الشرع، أما بواطن الشرع وحقيقة الشرع في المعاملات، والأخلاق والسلوك والآداب وغيرها فلا، فحقيقة الأمر: نحن بعيدون كل البعد عن الشرع، ولا نتمسك إلا بظواهر الشرع، وهذا أمر يحتاج منا إلى وقفة مع الذات ووقفة مع النفس.
قال: (واستحباب طلب العفو منه).
أي: من القصاص إلى الدية، ومن الدية إلى العفو.