للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية صحيح مسلم من حيث تتابع رواياته وطرقه في الباب الواحد]

الصفة الثانية التي انفرد بها مسلم عن البخاري: أنه انفرد بكونه أسهل تناولاً، وهذا في الحقيقة هو الذي رجّح أن ندرس صحيح الإمام مسلم، أنه أسهل في التناول.

فالإمام مسلم إذا أراد أن يحتج لباب أورد أدلته كما قلنا على التقاسيم والطبقات، وكانت روايته متتابعة في الباب الواحد، فالذي يريد أن يبحث عن حديث أو عن باب عند الإمام مسلم يجد هذا الحديث بكل طرقه التي رواها مسلم في مكان واحد، فلو أنك مثلاً أردت أن تبحث عن حديث: (إنما الأعمال بالنيات) لوجدت أن الإمام مسلماً رواه في كتاب الإمارة في موطن واحد، لكنَّ الإمام البخاري قطّع هذا الحديث ورواه في عدة مواطن، بلغت سبع مواطن في الصحيح، ولا شك أن تقطيع الحديث يُذهب ببهائه، ولكن الإمام البخاري إنما قطّعه لفائدة فقهية، أو نكتة حديثية أو غير ذلك، فهو يورده في سبعة أبواب، فإذا رجعت إلى هذا الحديث لوجدت أن إيراده تحت كل باب فيه فائدة تختلف عن الفائدة التي سبقت.

مثال آخر: حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم خمس) وفي رواية (ست) لوجدت الإمام البخاري قطّع هذا الحديث أجزاء، كل جزء جعله تحت باب معيّن.

والإمام مسلم يورد هذا الحديث بطرقه في مكان واحد، فلا شك أن تقطيع الحديث فيه صعوبة في الحصول عليه بخلاف إيراده في مكان واحد، فإنك إذا وصلت إليه وصلت إلى بغيتك وانتهى الأمر، ولكنك إذا بحثت عن حديث قطّعه الإمام البخاري في الصحيح فربما بلغت إلى موطن واحد وظننت أنه لم يخرجه إلا في هذا الموطن، وإذا بك تخرج من هذا الباب ولم تأخذ بغيتك، ولم تأخذ ما كنت ترجوه عند الإمام البخاري، ثم بعد ذلك نراك تقول: ولم يخرجه الإمام البخاري إلا في الموطن الفلاني، وكنت أظن أنه يخرجه في باب كذا أو باب كذا، أو يستشهد به على كيت وكيت، ولكنه لم يفعل غير أنه أورده في موطن واحد، والحقيقة أن الأمر ليس كما ظننت، وهذا الكلام أقوله قبل أن تظهر مسألة الفهارس والتحذيرات، فأنت عندما تبحث الآن عن حديث رواه البخاري بإمكانك من خلال تحفة الأشراف للإمام المزي أن تصل إلى كل أماكن الحديث من خلال كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، فمن خلال كتب أطراف الأحاديث وأوائل الأحاديث تصل إلى الأماكن والمواطن التي خرجها صاحب الصحيح أو غيره في صحيحه أو في الكتب الأخرى.

قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب الجزء العاشر صفحة (١٢٧): حصل لـ مسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث إن بعض الناس كان يفضله على صحيح البخاري، وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ، كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى.

بخلاف البخاري فإنه يفرق هذه الدقائق المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة وكثير منها يذكرها في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم أنه أولى به لدقيقة يفهمها الإمام البخاري نفسه؛ فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره البخاري من طرق هذا الحديث، كأن الحديث معلق في مكان وموصول في مكان آخر.

يقول النووي: وقد رأيت جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم.