[سبب نزول قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا)]
[حدثنا الحسن بن علي الحلواني ومحمد بن سهل التميمي قالا: حدثنا ابن أبي مريم -وهو أبو محمد المصري سعيد بن الحكم الثقة الثبت الفقيه الإمام- قال سعيد: أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري - سعد بن مالك بن سنان - رضي الله عنه: (أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
يعني: يريدون أن يقولوا: نحن ضحكنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد خرج إلى الغزوة ونحن قعدنا هنا، وفرحوا لأنهم تخلفوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فإذا قدم النبي عليه الصلاة والسلام اعتذروا إليه، وقالوا: يا رسول الله! سامحنا، منعنا من الخروج معك الأولاد والعيال والمال والغيث والبيت، واعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:١٨٨]).
وحدثنا زهير بن حرب وهارون بن عبد الله واللفظ للأول، قال: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان بن الحكم قال: اذهب يا رافع -لبوابه- إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً؛ لنعذبن أجمعون].
أي: أخذ مروان بن الحكم هذا الكلام على ظاهره، وأجراه مجرى العموم، فالمرء يحب أن يمدح بما أتى، ويمدح بما لم يفعل، ففهم هذا على العموم فقال لـ رافع: قل لـ ابن عباس: لو أن الواحد فينا يحب أن يمدح بما لم يفعل ويفرح بما أتى فإننا كلنا معذبون.
[فقال ابن عباس: إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:١٨٧].
ثم تلا قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران:١٨٨] الآية.
سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا من عنده قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه].
وقد ذكر ذلك عبد الله بن سلام حبر اليهود في المدينة، فقد زنى رجل من اليهود بامرأة، فجاء اليهود بهذا الزاني ملطخاً وجهه بالسواد، وكانت هذه عقوبة الزاني يفعلها أهل الكتاب في المدينة، فإذا زنى أحدهم لطخوا وجهه بالسواد، وطافوا به في المدينة ليفضحوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال هذا؟ قالوا: زنى يا محمد، فقال: لمَ لم ترجموه؟ قالوا: لم نؤمر برجمه) وهذا في حضرة عبد الله بن سلام الإسرائيلي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (هل في كتاب الله الذي بين أيديكم رجمه يا ابن سلام؟ قال: يا رسول الله في كتابهم الرجم، قالوا: ليس في كتابنا الرجم، فأتى أحد ممن جاء بهذا الزاني بالتوراة فتلاها ووضع أصبعه على الرجم، فقال عبد الله بن سلام لرسول الله: مره يا رسول الله فليرفع يده، فلما رفع قرأ عبد الله بن سلام الرجم، فرجمهم النبي عليه الصلاة والسلام).
فقد فرحوا أولاً بما أتوا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ما استخبرهم فإنهم يخبرونه حتى يخرجوا من عنده، فظنوا أنهم بذلك قد نجوا من بين يديه عليه الصلاة والسلام، وكتموا أمر الوحي الذي بين أيديهم، وأخبروه بغيره، فظنوا أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه صلى الله عليه وسلم.