[حكم التلبية]
أما حكم التلبية فقد أجمع المسلمون على أنها مشروعة، والمشروع في الأصول يشمل الواجب والمندوب، أو المستحب، فالإجماع على أن التلبية مشروعة، لكن وقع الخلاف: هل هي مستحبة أو واجبة؟ فقال الشافعي وآخرون: هي سنة ليست بشرط لصحة الحج ولا واجبة، يعني: لا هي شرط في صحة الحج، ولا هي واجبة يلزم من تركها الدم.
فهي عند الشافعي سنة ليست بشرط لصحة الحج ولا بواجبة وهو الراجح؛ لأنها لو كانت واجبة وشرطاً في صحة الحج لبطل الحج بتركها، ولو كانت واجبة فقط وليست شرطاً في صحة الحج فإن المتخلف عنها والتارك لها يلزمه الدم مع الإثم إن ترك ذلك متعمداً.
قال: (فلو تركها صح حجه ولا دم عليه، لكن فاتته فضيلة عظيمة جداً)، فتصور أنك ستظل مثلاً من ذي الحليفة إلى أن تدخل مكة أربع أو خمس أو ست ساعات وأنت في حال إذعان وخضوع وخشية وذل واستكانة لله عز وجل بقولك بين يديه: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وتستحضر معاني هذه الكلمات التي كلها توحيد وذل وخضوع لله عز وجل أربع خمس ست سبع ثمان عشر ساعات وأنت على هذه العبادة، أو تبدأ من رابغ إلى أن تدخل مكة، أو من قرن المنازل إلى مكة، أو من يلملم إلى مكة، وأنت متلبس بهذه الطاعة، وهذا الذل والانقياد لله عز وجل، مظهراً التوحيد والإخلاص والذل والخضوع لله، يعني: عبادات قلبية وعبادات جوارح تجمع بين جميع أنواع العبادات في هذه التلبية.
ولا يغرنك الحكم بأنها سنة أن تتركها؛ لأنك لو تركتها لتركت شيئاً عظيماً وفضلاً لو فاتك فقد فاتك الخير كله.
ثم اختلفوا في إيجابها: قال الشافعي وآخرون: هي سنة، وقال بعض الشافعية: هي واجبة تجبر بالدم، يعني: لو تركها يذبح شاة لفقراء الحرم، ويصح الحج بدونها؛ لأنها ليست واجبة، وقال بعض الشافعية وهو الرأي الثالث عند الشافعية: هي شرط لصحة الإحرام، ولا يصح الإحرام ولا الحج إلا بها.
إذاً: التلبية فيها عدة آراء: سنة من تركها فقد فوت فضيلة عظيمة، واجب يجبر بالدم ويصح حجه، شرط في صحة الإحرام والحج.
يعني: لو ذبحت مائة دم يظل حجك باطلاً؛ لأنك فوت ركناً، وهذا شرط في صحة الحج، لا يصح الحج إلا به.
أنا أريد أن أسأل سؤالاً: خلاف أهل العلم في هذه المسألة لا يجعلني آخذ بالعزيمة من باب الاحتياط، تجد الأخ في الطائرة مثلاً وخاصة أن هذه البلاد حارة، والحر يورث الخمول، كما أن جو مكة نفسه يورث الخمول، وهذا الكلام ذكره الإمام النووي.
وكنت أتعجب منذ أوائل الثمانينات وكانت أول سفرة لي إلى بلاد الحجاز كنت أتعجب جداً، وصار أمراً ملحوظاً؛ كلما دخلت مكة أخذني الخمول والوخم وأقبلت على النوم وتركت العبادة، وما قدرت على مراجعة جزء أو جزأين كل يوم، وأنعس والمصحف يقع من يدي ولا أستطيع الإمساك به، حتى قرأت للإمام النووي أن هذه الحالة انتابته مرات حين دخوله مكة، فسأل الأطباء هناك فقالوا: جو مكة يورث هذه المظاهر إلا من أقام بها مدة.
فلما أقمت بها مدة في سنة تسعين كنت في غاية النشاط، كنت أسكن بجوار الحرم بيني وبين الحرم قدر محطتين لا يزيد على ذلك، وكنت أركب مواصلة في كل مرة لأداء الصلوات الخمس، والإخوة الذين كنت أسكن معهم من أهل مكة يتعجبون جداً يقولون: يا شيخ ألا تستطيع أن تمشي هذه المسافة القصيرة؟ أقول لهم: والله العظيم أنني لا أستطيع أن أرفع قدمي، فلما أقمت بها سنة تسعين كان بيني وبين الحرم لا يقل عن خمسة كيلو، ولا أذكر أنني فوت فرضاً واحداً على مدار الثلاثة أشهر إلا في الحرم، وكنت أمشي على قدمي ولا أركب؛ لأن إلف جو مكة بعد ذلك أورث الشخص نشاطاً عظيماً جداً أيام الشباب.
قال: (والصحيح من مذهبنا ما قدمناه عن الشافعي: أن التلبية سنة.
وقال مالك: ليست بواجبة، ولكن لو تركها لزمه دم وصح حجه)، إذا كانت ليست بواجبة تكون سنة، والذي يترك السنة لا يلزم بالفداء، ولكن مالكاً لم يقو على القول بالوجوب موافقة للشافعي في ذلك، وقول الشافعي وافق قول مالكاً على اعتبار أن مالكاً أسبق، لكن الإمام مالكاً قال بالدم من باب الاحتياط.
قال الشافعي ومالك: ينعقد الحج بالنية بالقلب من غير لفظ كما ينعقد الصوم بالنية، يعني: قاس الحج على الصوم؛ لأنك في الصوم لا تقول: نويت أصوم غداً، أو نويت أصوم الشهر كله، بل إنك تعقد النية في قلبك، وكذلك لا تقل: نويت أصلي العشاء أربع ركعات في مسجد الرحمة (٣٠٥) شارع الهرم خلف الإمام الفلاني في الساعة الفلانية وإنما يكفيك أن تنوي خلف الإمام؛ لأن نيتك وأنت قادم إلى المسجد بعد أن سمعت الأذان وتوضأت وتهيأت في بيتك وخرجت منه إلى المسجد كل هذا أليس كافياً في إثبات النية؟ والراجح جواز -بل استحباب- التلفظ بالنية في أداء نسك الحج أو العمرة، لأن النبي