[شرح حديث: (الرؤيا الصالحة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب)]
[حدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي وأحمد بن عبد الله بن الحكم قالا: حدثنا محمد بن جعفر] وهو المعروف بـ غندر ربيب شعبة أي: أنه حينما مات جعفر تزوج شعبة بن الحجاج العتكي البصري أم محمد، فـ محمد بن جعفر كان من أئمة الحديث بالبصرة، ويكفي أنه ربيب شعبة، فقد رضع العلم وهو في حجره، ولذلك كان من المكثرين عن شعبة، وكانت فيه شدة على المحدثين؛ لأنه رضع كراهية التدليس والإرسال من شيخه شعبة الذي كان يقول: لئن أزني أحب إلي من أن أُدلِّس.
وفي رواية قال: لئن أشرب من بول حمار أحب إلي من أن أدلّس.
وليس معنى هذا الكلام أن شعبة يدعو إلى الزنا أو إلى شرب أبوال الحمير، ولكن هذا الكلام خرج مخرج الوعيد الشديد والكراهية المتناهية للتدليس.
[وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج] وهو المعروف بـ ابن جريج الأموي كان مدلساً كبيراً، قلّ أن يخلو مجلس من مجالسه إلا وفيه تدليس، فقدم محمد بن جعفر إلى مكة فجلس في مجلس ابن جريج.
والمدلّس لا يقول: حدثنا ولا أخبرنا، وإنما يقول: عن فلان، وقال فلان، كما تقول: قال الشيخ الفلاني: كذا وكذا وكذا فأقول لك: هل سمعت منه؟ تقول: لا.
ولكن أخبرني به فلان، لكن قولك: قال فلان ليس كذباً صريحاً، وإنما هو تمويه بأنك سمعت، فالمدلس يستخدم مصطلحات توهم السماع ولا يزعم فيها السماع، فإذا قال المدلس قال فلان وعن فلان استوقفناه، فإن لم يصرح بالسماع احتملنا حديثه؛ لأنه ليس كذّاباً، وإنما هو مدلّس فقط، ولذلك حديث المدلّس ضعيف، أما حديث الكذاب فهو موضوع ومكذوب ومفترى، ولا يمكن أن يرقى إلى القبول من أي طريق ولو من مائة طريق، إنما لو أتى الإسناد من مدلس من وجه آخر احتملناه، ولو صرّح المدلّس بالسماع في أحد الوجوه ولم يصرّح بالوجه الآخر احتملناه.
فكان ابن جريج يقول: قال فلان، وعن فلان، فيقول له محمد بن جعفر: أسمعت منه؟ فيقول: لا.
إنما هو من فلان، حتى قال مرة: عن فلان، فقال ابن جعفر بيده: أي: أنه أشار بيده.
فقال ابن جريج لـ محمد بن جعفر: يا غندر! وغندر في لغة أهل مكة هو المشاغب، فغلب هذا اللقب على محمد بن جعفر.
[قال محمد بن جعفر: حدثنا شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً)].
إذاً: عندنا ثلاث روايات، وهي: يتفل، ويبصق، وينفث [(وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها)] أي: وليتعوذ بالله مرة من شر الشيطان ومرة من شر هذه الرؤيا حتى لا تتحقق فيه [(ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره)].
الشاهد عندنا: أن كثيراً من أصاحب النبي صلى الله عليه وسلم رأوا أحلاماً أو رؤيا سوء، فأخبروا بها النبي عليه الصلاة والسلام فعوذّهم وأولها لهم، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رؤيا أزعجته كما في الحديث الطويل حديث الرؤيا بعد صلاة الغداة، حينما قال: (من رأى منكم البارحة رؤيا؟) ثم قال: (فإنه قد أتاني ملكان فقالا لي: انطلق يا محمد، فانطلقت معهما حتى أتينا على تنور، فقلت: ما هذا؟ فقالا: انطلق انطلق، فانطلقت حتى رأيت رجلاً يسبح في نهر من الدماء، ورجل آخر على الشط يلقمه حجراً كلما أراد أن يقترب من الشط) إلى آخره.
في التحذير من الربا والزنا.
فهذه رؤيا مزعجة لكن فيها مصلحة عامة، وتحذير للأمة من الوقوع في مثل هذه المعاصي، أما من كان يرى من أصحابه رؤيا سوء فيخبره بها عليه الصلاة والسلام، فهذا قد أخبر عالماً بها، وأما النهي فهو أن لا يخبر بها أحداً إذا كان لا يعبر الرؤيا، ولا بأس عليه أن يخبر بها من يفسّرها.