[جواز اختلاف الفقهاء على آراء يحتملها الدليل]
إذا اختلف السلف في قضية على رأيين أو ثلاثة أو أربعة وكانت هذه الآراء يحتملها الدليل فلا إنكار فيها، إنما الإنكار يكون في المنكر المجمع على أنه منكر.
أما قضية اختلف فيها السلف على مذهبين كقضية الحجاب والنقاب، أو الكشف والتغطية فقد اختلفوا فيها، فلا إنكار في هذا، والأمر كله مداره على تقوى الله عز وجل، وإذا كنت من أهل العلم وطلابه فعليك أن تدرس المسألة دراسة مستوعبة، فالذي يغلب على ظنك وعقلك وقلبك فإنما هو دين الله تعالى في حقك، وغيرك يدرس القضية وينتهي إلى رأي يخالف ما أنت عليه، أيضاً بتقوى الله بعيداً عن الهوى؛ لأن صاحب الهوى آثم، فإذا ذهب أحد طلاب العلم إلى جواز الكشف، بناء على الأدلة التي استعرضها، وذهب الآخر إلى وجوب التغطية، فليس لأحدهما أن يُنكر على الآخر.
وكذا وضع اليد على الصدر بعد الرفع من الركوع.
وهذا أمر ثابت بالدليل الصحيح الصريح الذي لا يحتاج إلى تأويل، وليس بلازم، فقد ورد في حديث وائل بن حجر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم في صلاته من الركوع حتى يستقر كل عضو في مكانه.
فمنهم من قال: يستقر كل عضو في مكانه على أصل خلقته قياماً، فالذي يمشي في الشارع لا يضع يده على صدره، وإنما يمشي ويديه إلى جانبيه.
ومما يساعد على ذلك: أن هذه المسألة من المسائل العملية التي ترد عشرات المرات في اليوم الواحد، فالواحد يصلي ١٧ ركعة فرضاً، ومثلها مرتين أو ثلاثاً أو يقل أو يزيد من النوافل، والنوافل والفرائض في الهيئة سواء، ومع ذلك لم يرد إلينا فيها دليل صحيح صريح، وهذه من المسائل التي لو كانت مستقرة عند السلف كان النقل فيها تواتر أو استفاض، وهذا رأي فريق من الناس.
وكذا الإسبال ليس فيه سنة ثابتة، لكن من فعله فلا حرج عليه، غير أن شيخنا الألباني رحمه الله قال: من فعلها فهو مبتدع.
وهذا الحكم فيه مبالغة لا نقره عليها رحمه الله.
وعلماء الحجاز قالوا: وضع اليد على الصدر بعد الرفع من الركوع سنة ثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، والدليل حديث وائل بن حجر.
فبالنظر إلى كل هيئة من هيئات الصلاة نجد أن المصلي على حال معين، فهو في حال قيامه قبل الركوع يضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، وفي حال الركوع قابض على الركبتين، وفي حال السجود واضع كفيه على فخذيه مشيراً بسبابة أصابع اليد اليمنى باتجاه القبلة.
إذاً: كل ركن من أركان الصلاة له كيفية معينة وهيئة معينة، فإذا كنا نريد أن نلحق القيام بعد الركوع بالقيام قبل الركوع، لأنهما قيام واحد، فنستدل بحديث: (حتى يستقر كل عضو في مكانه) أي: داخل الصلاة.
لأن الحديث فيه: (إذا قام من ركوعه) أو (إذا اعتدل من ركوعه)، فإنه يرجع على هيئته قبل الركوع، وكانت هيئته قبل الركوع أنه يضع اليمين على الشمال.
إذاً: هذا الكلام وجيه، وحكمنا على الرأي الأول الذي يقول: ليس فيه سنة ثابتة بأنه كلام وجيه أيضاً، وهو عبارة عن استنباط واجتهاد، وليس فيه دليل صحيح صريح يحسم القضية، وحينما يعرض كلا الاجتهادين على النص فإنه يحتمل، فإذا كان الدليل يحتمل جميع هذه التأويلات فلا إنكار على من تبنى تأويلاً من هذه التأويلات، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله: إذا شاء وضع اليمين على اليسار بعد الرفع من الركوع، وإذا شاء أسدل.
أي أن القضية عنده ليس فيها نص صريح، إنما هو اجتهاد والاجتهاد يحتمل النص.
إذاً: هذه المسألة ليس فيها سنة ثابتة بحيث أنني لو تركتها أكون قد تركت هيئة كان عليه السلف، أو أمر بها النبي عليه الصلاة والسلام، ولو أني فعلتها لست آثماً.
والشاهد الذي أريد أن أقوله: أن نربي أنفسنا دائماً على حسن التعامل مع مسائل الخلاف، فالغضب الشديد لا وجه له في الإسلام، ولا وجه له في الشرع، فأنت حينما تقرأ في أدلة الحجاب والنقاب ستجد من يذهب إلى وجوب النقاب وفي المقابل ستجد من ترجح لديه أن الكشف جائز، فلا إنكار عليه، لكنك حين تدخل على القضية وأنت عاقد العزم -قبل أن تقرأ وقبل أن تسمع شيئاً- أن النقاب واجب، وأن تاركة النقاب آثمة، فربما تقول: هي سافرة، وداعرة وغيرها من هذه الألفاظ التي نسمعها ممن لا عقل له، وممن لا يحتمل الخلاف لضيق أفقه بكلام أهل العلم.
وقل أن تجد في دين الله عز وجل مسألة مجمع عليها؛ ولذلك فإن كتب الإجماع قليلة جداً، وحجم كل منها صغير؛ وانظر إلى الإجماع لـ ابن المنذر لا يتعدى المائة ورقة، والإجماع لـ ابن حزم لا يتعدى المائة ورقة وهكذا؛ بل إن أهل العلم ينكرون على ابن حزم أنه عد مسائل من الإجماع وفيها الخلاف، وكذلك ابن المنذر فقد ادعى الإجماع في مسائل فيها خلاف، وتجد كتب الفقه ضخمة جداً، لوجود الخلاف.
إذاً: أنت في هذا الوقت تريد تحملني في كل قضية من القضايا على رأيك أو على مذهب إمامك، وهذا الكلام لا علاقة له بالعلم قط، إنما كل إمام من الأئمة بذل أقصى جهده وبذل وسعه ثم استقر لديه أن دين الله عز وجل