للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث عائشة في أشد يوم أتى على النبي صلى الله عليه وسلم وما لقي فيه من الأذى]

[وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح وحرملة بن يحيى وعمرو بن سواد العامري قالوا: حدثنا ابن وهب -كل هؤلاء الرواة مصريون، وهذا شرف عظيم جداً- قال: أخبرني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب حدثني عروة بن الزبير: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته: أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟)] فقد كان يوم أحد يوماً شديداً وعصيباً جداً، فهي تسأله وتقول له: هل كان هناك يوم في حياتك أشد من يوم أحد؟ قال: [(لقد لقيت من قومكِ وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب -اسم مكان بجوار مكة- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال وسلّم عليّ ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟)] أي: إن شئت فعلت.

والأخشبان: هما جبلان في مكة: أبو قبيس والجبل المقابل له.

[فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)].

هذا مظهر عظيم جداً من مظاهر رحمته عليه الصلاة والسلام ورأفته بقومه: (بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً).

فأهل مكة فعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم مثلما فُعل به بالطائف، وأهل الطائف أهل خير وإيمان وصلاح وبر وعبادة، وهم أهل مدح عند من يعرفهم.

فلو كان النبي عليه الصلاة والسلام استجاب لدعوة ملك الجبال حينذاك في أن يجعل الطائف رأساً على عقِب؟ وأهل مكة الآن لو كانوا على كفرهم وشركهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم استجاب لملك الجبال هل كان يأمن أحدنا أن يعتمر أو يحج؟ أبداً ما كان يأمن أحدنا أن يعتمر أو يحج.

فهذه نظرة لآلاف السنين نظرها النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يكن ينظر تحت قدمه وإنما كان همّه تحقيق العبودية الكاملة التامة لله عز وجل؛ انتظاراً لقومه وعشيرته ولأهل الكفر والإلحاد في شرق الأرض وغربها، وصبره عليهم حتى يدخلوا في الإيمان.

فلو كنا نحن مكان النبي عليه الصلاة والسلام لكنا اخترنا لأول وهلة إهلاك هؤلاء جميعاً، وهذا الفارق بيننا وبين النبي عليه الصلاة والسلام، أن نظرته أعمق من نظرة أمته كلها، وأن صبره وحلمه وعفوه وصفحه قد بلغ فيه مبلغ الكمال والتمام البشري، بل هو الذي حقق الكمال في كل مكارم الأخلاق، وربما حقق الواحد من الأمة مكارم الأخلاق في خصلة من خصال الأخلاق، أو في ثنتين أو في ثلاث، لكن لم يُكمل أحد من الأمة الكمال والتمام في مكارم الأخلاق كلها إلا نبينا عليه الصلاة والسلام.

قال: (بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً).