للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الهمة العالية في اتباع الدين]

ويروى أن أحد الجواسيس الفرنجة توغل داخل بلاد المسلمين في الأندلس، فرأى طفلاً من أطفال المسلمين يبكي تحت شجرة، فسأله: ما يبكيك يا بني! قال: لأنني لم أستطع إصابة الهدف الذي حدد لي، وهو صيد العصفور فوق الشجرة، فقال الجاسوس: هون عليك أيها الطفل وعاود الكرة مرة أخرى، فقال الطفل المسلم: إن الذي يبكيني أعمق من صيد العصفور فوق الشجرة؛ يبكيني أنني قلت في نفسي: إن لم أستطع صيد العصفور بسهم واحد فكيف أستطيع أن أقتل عدوي وعدو الله غداً؟ فهذا إخلاص وصدق عند هذا الطفل؛ فدهش الجاسوس وبلغ الخبر إلى ملك الفرنجة، فقال ملكهم: الرأي عندي إن كنتم تأخذون برأيي ألا تعترضوهم؛ فإنهم كالسيل يحمل من يصادفه، أي: من وقف أمامه حمله، وهذا لا يتوفر ولا يتحقق إلا في أهل الإيمان المخلصين الصادقين، قال: ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، وواحد كألف، وصدق وهو كذوب.

فانصب وجهك لله، واملأ قلبك بحب الله وخشيته، واجعل همك مرضاة الله تعالى لا مرضاة عباده، فإنك إن فعلت ذلك كفاك الله مئونة الخلق.

لا لك الدنيا ولا أنت لها فاجعل الهمين هماً واحداً إني لأربأ بك واربأ بنفسك أيها الأخ المسلم! أن ترى في المسجد مصلياً خاشعاً ثم ترى في السوق مرابياً، أو ترى في البيت والشارع والمنتدى غير محكم لشرع الله في نفسك أو أهلك أو ولدك أو من تعول، وكيف يليق بك أن تنظم الحياة من حولك ثم تترك الفوضى في قلبك.

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس وفي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان والخفافيش.

فكيف يصنع من أقصاه خالقه لا ليس ينفعه طب الأطباء من غص داوى بشرب الماء غصته فكيف يصنع من قد غص بالماء إن الفيصل استقامة السر، فمتى استقام باطنك - أيها الأخ! - استقامت لك الأمور، وصدق عندها الفعل والقول في العلانية والسر، والمشهد المغيب، فإذا أنت بسام بالنهار بكاء بالليل، كاللؤلؤة أينما كانت فحسنها معها، وكسبيكة الذهب إن نفخت عليها النار احمرت، وإن وزنتها لم تنقص، ولسان الحال يقول: دع الذي يفنى لما هو باقٍ.

يا طالب العلم! إني أعوذك بالله أن تكون في عينيك عظيماً وعند الله وضيعاً حقيراً، وأن تتزين بما ليس فيك، ثم أعيذك أخرى أن تجمع الإخلاص مع حب المدح والثناء، فإنهما ضدان لا يجتمعان أبداً، يقول ابن القيم عليه رحمة الله: لا يجتمع الإخلاص في القلب مع حب المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء، قلت -والقائل هنا هو ابن القيم، وأما نحن فلا ينبغي لنا أن ننصح في هذا، ففاقد الشيء لا يعطيه، فنحن نشكو مما تشكون منه-: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك اليقيني أنه ما من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله تعالى خزائنه، فإذا كان كل شيء خزائنه بيد الله عز وجل فعلام الطمع فيما في أيدي الناس؟ وصدق ابن القيم رحمه الله، فالقناعة بما يكفي وترك التطلع إلى الفضول هو أصل الأصول، والعز ألذ من كل لذة، وهل عز أعز من القناعة؟ ولما دخل أحدهم البصرة، قال: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري، قال: بم ساد على هؤلاء القوم؟ أو بم ساد أهل البصرة؟ قالوا: احتجنا إلى دينه واستغنى عن دنيانا.

مر الحياة لمن يريد فلاحاً حلو ويفلح من يريد فلاحاً وأما الزهد في الثناء فيسهله عليك علمك أن أحداً لا ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله عز وجل، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وذم من لا يشينك ذمه، وارغب فيمن كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن تقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فإذا فقدتهما كنت كمن يريد السفر بلا دابة.

يقول مالك بن دينار: إن الصدق يبدو في القلب ضعيفاً كما يبدو نبات النخلة، أي: ينبت في القلب نباتاً ضعيفاً، كما يبدو نبات النخلة، فهي تبدو غصناً واحداً؛ فيسقى فينتشر، ثم يسقى فينتشر، حتى يكون لها أصل أصيل عظيم يوطأ، وظل يستظل به، وثمرة يؤكل منها، كذلك الصدق مع الله عز وجل يَنبت في القلب ضعيفاً أولاً، ويتفقده صاحبه ويزيده الله تعالى، حتى يجعله الله تعالى بركة على نفسه، فيكون كلامه دواء للخاطئين، ويحيي الله تعالى به الفئام من الناس، وربما صاحبه لا يعلم بذلك.

ويروى أن قاصاً كان بقرب محمد بن واسع عليه رحمة الله تبارك وتعالى يقول: ما لي أرى القلوب لا تخشع والعيون لا تدمع والجلود لا تقشعر؟ فقال ابن واسع: ما أرى القوم أوتوا إلا من قبلك، ما أرى القوم بمثل ما تنقصتهم به إلا من قبلك؛ إن الذكر إذا خرج من القلب وقع عل