[شرح حديث أبي قتادة في صيده لحمار الوحش وأكل المحرمين منه]
قال: [من حديث أبي قتادة قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالقاحة -القاحة: هي اسم قرية بين مكة والمدينة- قال: فمنا المحرم ومنا غير المحرم)]، وربما وجه أحدكم سؤالاً وقال: نحن عرفنا من قبل أنه لا يجوز لمن أراد النسك أن يمر على الميقات إلا وهو محرم؟
الجواب
هذا أبو قتادة لم يكن مريداً للنسك؛ ولذلك جاز له أن يعبر الميقات بغير إحرام، وقيل: إن المواقيت لم تكن وقتت بعد.
وهذا بعيد، وقيل: لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعث أبا قتادة ورفقته لكشف عدو لهم بجهة الساحل، وهذا التأويل هو أقوى التأويلات.
إذاً أبو قتادة الأنصاري لما عبر الميقات بغير إحرام كان يقصد استكشافاً للعدو وقتالاً له، وأنتم تعلمون من الدروس الماضية أنه يجوز لمن دخل مكة مقاتلاً أو محارباً أو مجاهداً أن يدخلها بغير إحرام.
ومن خرج من بيته ينوي النسك لا يمر على ميقاته إلا محرماً، ويؤدي النسك أولاً ثم ينصرف إلى المدينة، فإذا خالف ذلك فقد خالف الأولى، فإن دخل المدينة بغير إحرام، كان ميقاته حينئذ ميقات أهل المدينة، فعندما يرجع إلى مكة يحرم من ذي الحليفة، لكنه هنا قد خالف الأولى، وفوت على نفسه ثواباً عظيماً جداً، وهو إحرامه من الميقات الأول الذي مر به.
قال أبو قتادة [: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالقاحة فمنا المحرم ومنا غير المحرم)، إذاً: هذه الرفقة كان فيها محرمون وغير محرمين.
قال: (إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئاً -يعني: ينظرون إليه بأعينهم- فنظرت فإذا حمار وحش -أي: نظرت في الموضع الذي يتراءون فيه فبصرت عيناي حمار وحش- فأسرجت فرسي وأخذت رمحي -يعني: وضعت عليه السرج- ثم ركبت فسقط مني سوطي، فقلت لأصحابي -وكانوا محرمين- ناولوني السوط، فقالوا: والله لا نعينك عليه بشيء)]؛ لأنهم محرمون، فغير المحرم يجوز له أن يناوله السوط، أما أن المحرم فلا يجوز له قتل الصيد ولا ذبحه ولا الإشارة إليه ولا الإعانة على قتله، أما أكل الصيد ففيه نزاع وسيأتي معنا.
قال: [(فقلت لأصحابي وكانوا محرمين: ناولوني السوط، فقالوا: والله لا نعينك عليه بشيء، فنزلت فتناولته ثم ركبت، فأدركت الحمار من خلفه وهو وراء أكمة -يعني: أدركت الحمار وهو وراء تبة- فطعنته برمحي فعقرته -يعني: قتلته- فأتيت به أصحابي فقال بعضهم: كلوه، وقال بعضهم: لا تأكلوه -أي: المحرمون- وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمامنا فحركت فرسي فأدركته، فقال: هو حلال فكلوه).
يعني: وجه أمره للمحرمين أن هذا الحمار الذي قتله أبو قتادة ولم يكن محرماً حلال لهم ولا بأس بأكله مع أنهم محرمون، قد يقول قائل: الصعب لما أهدى بعض حمار وحشي للنبي عليه الصلاة والسلام رده عليه وقال له: (إنا لم نقبله لأنا حرم) وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يأمر المحرمين أن يأكلوا من هذا الحمار الذي قتله أبو قتادة.
وعن أبي قتادة [: (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم، فرأى حماراً وحشياً، فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه، فسألهم رمحه فأبوا عليه، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بعضهم، فأدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذلك فقال: إنما هي طعمة أطعمكموها الله)] يعني: هذا طعام ساقه الله إليكم، وهذا يعني: إقراره عليه الصلاة والسلام لما فعلوه.
وفي حديث زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل معكم من لحمه شيء؟).
قال: [وعن عبد الله بن أبي قتادة قال: انطلق أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم يحرم أبو قتادة.
قال أبو قتادة: [(فبينما أنا مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض)]، كلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة أن يأتي بأخبارهم، فلم يكن محرماً لأجل هذا؛ لأن المجاهد في الغالب لا يتفرغ لأداء النسك؛ ولذلك كان فيهم أقوام قد استعدوا للقاء العدو، وأقوام قد استعدوا لأداء النسك، وكان أبو قتادة ممن لم يحرم.
قال: [(فبينما أنا مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض، إذ نظرت فإذا أنا بحمار وحش فحملت عليه فطعنته فأثبته -يعني: سقط ميتاً- فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني -يعني: قال: احملوا معي الحمار اذبحوه أو اسلخوه فلم يفعلوا- فأكلنا من لحمه وخشينا أن نقتطع)].
هذا الفوج الذي ذهب من المدينة إلى مكة كان فوجاً كبيراً جداً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مقدمة هذا الفوج، وأبو قتادة كان في آخر الفوج، فلما طعن هذا الحمار الوحشي وجا