[أقوال أهل العلم في تأويل حديث الرجل الذي أمر بنيه إذا مات أن يحرقوه]
قوله: (فوالله! لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين).
هذا شك في قدرة الله عز وجل، وهو كفر بالإجماع، لكن العلماء قد اختلفوا في تأويل هذا الحديث: فقالت طائفة: لا يصح حمل هذا على أنه أراد نفي قدرة الله؛ لأن الشاك في قدرة الله تعالى كافر، والكافر مخلد في النار، فلا بد من صرف هذا إلى غير قدرة الله، وقد قال في آخر الحديث: أنه إنما فعل ذلك خوفاً من خشية الله تعالى، والكافر لا يخشى الله، كما أنه لا يغفر لكافر، والحديث يقول: (فغفر الله له بذلك)، أي: بسبب الخشية، والمؤمن لا بد أن يطير إلى الله بجناحي الخوف والرجاء، فإذا غلب الخوف على الرجاء أدى به إلى اليأس من رحمة الله، وإذا غلب الرجاء على الخوف أدى به إلى التسويف في العمل، اتكالاً على رحمة الله عز وجل، لكن لا بأس أن يزيد الخوف على الرجاء شيئاً يسيراً حتى يحمله في حال صحته على العمل، لكن ينبغي أن يغلِّب رجاء الله على رحمة الله عز وجل خاصة وهو في فراش موته، حتى يلقى الله تبارك وتعالى وهو طامع في جنته.
لذا فالحديث له تأويلان: الأول: أن معنى (قدر) قضى، أي: لئن قضى علي ربي ليعذبني، وقدر بالتخفيف والتشديد، وهما بمعنى واحد.
الثاني: أن (قدر) بمعنى: ضيق، أي: لئن ضيق الله عز وجل علي، كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:١٥ - ١٦]، أي: ضيق عليه رزقه.
والمراد هنا في الحديث: لئن ضيق الله تعالى رحمته علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، وشاهدها في سورة الفجر: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:١٦] وكذلك قول الله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:٨٧]، أي: فظن أننا لا نضيق عليه، وهذا بإجماع المفسرين.
وقالت طائفة: اللفظ على ظاهره، والمقصود به القدرة، والرجل قال هذا الكلام وهو غير ضابط له، يعني: أنه في حالة ذهول وغفلة وخطأ جعلته يقول مثل هذا الكلام، وهو لا يقصد حقيقة المعنى، ولا معتقد صحة ذلك، وإنما كلام قاله في لحظة غفلة ودهشة، وتسلط الخوف والجزع عليه، بحيث ذهب توقعه وتدبر ما يقوله، فصار في معنى الغافل والناسي، بل هو أشد من الغافل والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها العبد كما هو معلوم من أقوال أهل العلم، وهو نحو قول القائل الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فهذا الكلام كفر إن قصده صاحبه، لكن لما غلب عليه الفرح أذهله وأدهشه وغيب شيئاً من عقله، فقال كلاماً لم يقصد حقيقته، وإنما قصد خلاف ذلك، ومثله أيضاً: حديث الرجل الذي لم يعمل صالحاً قط، وهو في غير مسلم: (فلعلي أضل على الله)، أي: أغيب عنه، وهذا يدل على أن قوله: (لئن قدر الله) على ظاهره.
وقالت طائفة: هذا من مجاز كلام العرب وبديع استعمالهم، ويسمونه: (مزج الشك باليقين) وهو باب من أبواب الفصاحة، فيمزجون الشك باليقين أحياناً، ولا يريدون حقيقة الشك، وإنما يريدون حقيقة اليقين، كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:٢٤] ومعلوم أن قائل هذا: هم الأنبياء والمرسلون، فهل الأنبياء الذين قالوا هذا القول -الذي يدل بظاهره على الشك- قصدوا به الشك؟ وهل شكوا في أنهم على الهداية التامة وأنهم طائعون لرب العالمين؟
الجواب
لا، وإنما هذا أسلوب بديع من أساليب العرب، ومن أساليب البلاغة والفصاحة في الكلام، فصورته صورة شك والمراد به اليقين, كما لو قال رجل محق في خصومة طلب إلى القضاء: اذهبوا بها إلى القاضي يقضي لي إن كنت مصيباً، أو يقضي علي إن كنت مخطئاً.
مع أنه في حقيقة أمره موقن أنه لم يخطئ، لكن قوله: (إن كنت مخطئأً حكم علي، وإن كنت مصيباً حكم لي) كلام يوحي أنه في شك مما هو عليه، أمصيب هو أم مخطئ؟ مع أن اليقين عنده أنه مصيب.