[حديث أم سلمة في قصة النجاشي مع وفد قريش]
روى الإمام أحمد في المسند من حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، آمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين.
أي: تواطئوا واتفقوا أن يجعلوا في أثر هؤلاء الصحابة رجلين صلبين قويين صاحبي حجة ولسان وبيان، حتى يفضحا هؤلاء المهاجرة عند النجاشي.
قالت: فلما فعلوا أهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم.
أي: الخضار أو البقول أو غير ذلك مما يُطهى ويُطبخ.
قالت: فجمعوا له أدماً كثيراً.
أي: أنواعاً متعددة من الغذاء.
قالت: ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص السهمي وأمّروهما أمرهم.
أي: أرسلوا سرية عليها عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص.
وقالوا لهما -أي: قريش قالت لـ عبد الله بن أبي ربيعة ولـ عمرو بن العاص - ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تُكلموا النجاشي فيهم.
يستميلون بطانة السوء أولاً بالهدية، ثم يرجون عندهم نوالاً ومساعدة، حتى إذا اشتُريت ذمم البطارقة يسهل عليهم أن يضغطوا على النجاشي.
ثم قالت قريش لهما: ثم قدموا له هداياه.
أي: بعد أن يأخذوا البطارقة الهدايا، قدّموا الهدايا إلى النجاشي، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم.
وإلى ذلك الوقت لا يزال النجاشي لم يتكلم مع هؤلاء الصحابة، ولكنه علم بخبرهم.
قالت: فخرج عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته، وقال له: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم.
أي: أن دوركم أيها البطارقة! حينما ندخل على الملك ونطلب منه أن يسلمنا هؤلاء الذين أتوا بدين مبتدع جديد هو مساعدتنا، وتقولون له: ادفع إليهم هؤلاء بغير أن يدخلوا عليك وبغير أن تتحدث معهم ولا تكلمهم؛ فإن قومهم أعلى بهم عيناً -أي: أخبر بهم، وأعلم بما عابوا عليهم- فقالوا لهم: نعم.
ثم إنهما قربا هدايا النجاشي فقبِلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك! إنه قد صبا -أي: أوى إليك- وإلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم.
قالت أم سلمة: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله وعمرو من أن يسمع النجاشي كلامهم -أي: أنهم كانوا في غاية الحذر أن يسمع النجاشي كلام هؤلاء المهاجرة؛ وذلك لأنهم يعرفون أن الحق أبلج، وله نور وضياء وسلطان في القلب- فقالت بطارقته من حوله: صدقوا أيها الملك! وانظروا إلى الكذّابين المنافقين وكأنهم يقولون: سلم لهم هؤلاء الناس ولا تسمع منهم، كل هذا لأجل الهدايا التي أخذوها من قبل، وهناك من يبيع دينه بفلس، وآخر لا يفرّط في أدنى شعيرة من دينه ولو كان الثمن الدنيا وما فيها، والناس مذاهب.
قالت: فقالت بطارقته من حوله: صدقهما أيها الملك! فأسلمهم إليهما.
فغضب النجاشي غضباً شديداً، ثم قال: لا ها الله إذاً: لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قوماً جاوروني.
أي: لا أكيد بقوم جاوروني، ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم.
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا فقالوا: ماذا نقول للرجل إذا جئناه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا عليه الصلاة والسلام.
أي: أن هذا لا يحتاج إلى تفكير منا في الذي نقول له؛ لأنا لا نعلم ما هي أسئلته المحددة.
قالت: فقال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا عليه الصلاة والسلام كائناً في ذلك ما كان.
وهذا لقوة إيمانهم.
فما هي النتيجة؟ هل يقتلنا؟ إذاً: يقتلنا، فلن نقول إلا الحق، وإذا أراد طردنا من الحبشة فليطردنا ومع ذلك لا نقول إلا الحق.
قالت: فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله -أي: الصحف- سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت أم سلمة: وكان الذي يكلمه جعفر بن أبي طالب.
فقال له: أيها الملك! إنا كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ون