ثانياً: دلالة الحس على وجود الله عز وجل
وأما دلالة الحس على وجود الله عز وجل فإن الإنسان يدعو الله عز وجل ويقول: يا رب! ويدعو بشيء ويستجاب له في هذا الشيء الذي دعا ربه به.
وهذه دلالة حسية يراها الإنسان بعيني رأسه، ويرى إجابة الله تعالى لسؤاله ودعائه، فهو لم يدع إلا الله وقد استجاب الله له، وقد رأى ذلك رأي العين، وكذلك نسمع عمن مضى وعمن هو موجود ممن دعا واستجاب الله تعالى لدعائه وآتاه سؤاله، وقد صنف الحافظ ابن أبي الدنيا كتاباً بعنوان: مجابو الدعوة، وكثير من الصحابة رضي الله عنهم كانوا مجابي الدعوة، وكذلك الأنبياء كلهم بلا استثناء كانوا مجابي الدعوة.
وقد دخل أعرابي والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال: هلكت الأموال يا رسول الله! وانقطعت السبل، وهلك الضرع والزرع -فشكا هذا الأعرابي القحط والجدب بسبب ارتفاع المطر وعدم نزوله، حتى كادت المدينة أن تهلك- فادع الله عز وجل أن يغيثنا بالمطر، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء ودعا الله عز وجل، يقول أنس: ووالله ما في السماء من سحاب ولا قزعة -أي: ولا قطعة سحاب ولا علامة سحاب- وما بيننا وبين سلع -وهو جبل في المدينة، تأتي من قبله السحب- من بيت ولا دار، أي: أننا لا يحجبنا عن المكان الذي يأتي منه السحاب بيت ولا دار، فكنا نرى السماء صافية تماماً، ولكن لما دعا النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الأدعية نزل المطر ولم يكف مدة أسبوع كامل، فدخل ذلك الأعرابي في الجمعة المقبلة، وقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، أي: بسبب كثرة مياه الأمطار وغزارتها، فادع الله لنا.
وهذا يدل على أن الله تعالى استجاب دعاء نبيه في الجمعة الأولى وفي الجمعة الثانية، وهذه دلالة حسية على وجود الله عز وجل، وهذا أمر واقع وموجود، وهو يدل على وجود الخالق دلالة حسية.
وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:٦٠].
وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:١٨٦].
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (دعاء المسلم بين ثلاث)، وفي رواية قال: (ما لأحدكم يدع الدعاء، يقول: دعوت ربي فلم يستجب لي؟ ودعاء المسلم بين ثلاث: إما أن يعجل الله تعالى له سؤاله في الدنيا -أي: بمجرد أن تسأل الله عز وجل يؤتيك سؤالك، ولعل هذا يكون أهونها، وأقلها فائدة لك- وإما أن يدفع عنه من البلاء مثله وأعظم، وإما أن يدخرها له في الآخرة فيكافئه الله بها)، وفي القرآن الكريم قال الله تعالى على لسان أيوب: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء:٨٣]، أي: إذ دعا ربه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣].
ونحن نعلم ما نزل بأيوب عليه السلام من البلاء والضر في بدنه وفي ماله وفي أهله وفي امرأته كذلك، حتى قيل: إن لحمه تساقط، ولم يبق في بدنه إلا العصب والعظم والقلب يسبح الله تعالى به، وتناثر لحمه، وخرجت رائحته، حتى كان لا يكاد أحد يجرؤ على أن يقترب منه من نتن هذه الرائحة، ولم يكن يقترب منه في ذلك الوقت إلا امرأته، وظل هذا البلاء بأيوب عليه السلام ثمانية عشر عاماً، وكان إخوانه وأصدقاؤه وأصحابه يقولون له: إن هذا البلاء ما نزل بك إلا بذنب، ورجوه في أول الأمر أن يدعو الله عز وجل أن يرفع عنه البلاء، فرفض في أول الأمر، ثم لما كانت فتنة عظيمة دعا ربه وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣].
فالله عز وجل قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:٨٤].
وقد قيل: إن امرأته احتاجت إلى أن تعمل خادمة في البيوت حتى تعيل نفسها وتعيل أيوب عليه السلام، وكثرت الروايات في هذا، ومنها ما هو غريب، ومنها ما هو من الإسرائيليات وغيرها.
ولم يثبت أن نبياً من الأنبياء أكل من تكفف الناس أو سؤالهم، فامرأة أيوب كانت تعمل عند الناس مقابل أجر، ولم تكن تتكفف الناس حتى يعيلوا أيوب، وإنما كانت تعمل وتأخذ أجرها فتنفق منه على أيوب عليه السلام في مرضه، قال تعالى: ((فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ)).
فلما رجعت امرأته ذات يوم وجدت أيوب عليه السلام في أحسن صورة وأكمل هيئة، فتوارت عنه ولم تعرفه، حتى قال لها: أنا أيوب، قالت: سبحان الله! واستنكرت، فأخبرها أنه دعا ربه أن يرفع عنه الضر، فرفع عنه الضر، وأبدله صحة وعافية، وأرجع إليه أهله وماله وأولاده، {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:٨٤].
وهذه دلالة أيضاً حسية على وجود الله عز وجل، وليس هو موجوداً من باب أنه اسم مفعول بمعنى مخلوق، فهذا كفر، وإنما موجود بمعنى واجد، فهو اسم مفعول على وزن فاعل.