[باب الطيب للمحرم عند الإحرام]
قال: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت)]، نحن كنا قد اتفقنا في الدروس الماضية أن الطيب يحرم على المحرم؛ وقلنا: إن من فعل ذلك متعمداً لزمه الدم؛ لأنه خالف واجباً، ومن فعل ذلك ساهياً أو مخطئاً أو جاهلاً وهو لا يعلم بالحرمة فلا شيء عليه، وإن قدم شاة فهو حسن، لكن إن لم يقدم فلا إثم عليه.
وعائشة رضي الله عنها تقول: (طيبت) يعني: حصل منها العطر والطيب، (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، يعني: لما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يحرم طيبته قبل أن يحرم، والذي أراد الدخول في النسك قبل إحرامه جاز له أن يتطيب في بدنه دون ثوبه.
فـ عائشة رضي الله عنها طيبته -قبل أن يحرم- في بدنه، وستأتي معنا الأدلة التي تبين هذا، ثم قالت: (ولحله) أي: طيبته لحله قبل أن يطوف بالبيت طواف الإفاضة في يوم النحر، بعد رمي جمرة العقبة، وبعد الحلق وربما بعد الذبح وفي يوم النحر حل له كل شيء إلا النساء، ومما حل له الطيب، فهي تقول: (وطيبته لحله قبل أن يطوف بالبيت)، يعني: طيبته بعد أن تحلل من ملابسه بمنى بعد رمي جمرة العقبة وبعد الحلق، لأن السنة التي وردت في حجه كما في حديث جابر في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام في حجه فعل هذا، فإنه رمى جمرة العقبة وناول رأسه الحلاق فحلق الأيمن ثم حلق الأيسر، وأخذ أبو طلحة الأنصاري شعره فأخذ الشق الأيمن له ولأهل بيته، وأخذ الشق الأيسر ففرقه في أصحابه كل واحد له شعرة أو شعرتان بركة من النبي عليه الصلاة والسلام.
والتبرك بالنبي عليه الصلاة والسلام يجوز بذاته وآثاره، بخلاف بقية الخلق فلا يجوز التبرك بأحد قط من الخلق، إنما يجوز الاستشفاع والاستسقاء بدعاء الصالحين وغير ذلك، وهذا ليس موضوعنا الآن، فالنبي عليه الصلاة والسلام رمى جمرة العقبة وحلق وذبح الهدي وكان معه الهدي في منى؛ لأنه كان يسوقه معه، وعلى أية حال على فرض أنه لم يذبح مع أنه ذبح لكنه رمى جمرة العقبة وحلق فحل له كل شيء إلا النساء.
فهو لما سينزل من منى يطوف بالبيت ويسعى سعي القدوم، فالنبي عليه الصلاة والسلام تحلل في منى قبل أن يطوف بالبيت، فـ عائشة تقول: (وطيبته لحله قبل أن يطوف بالبيت)؛ لأنه تحلل بعد أداء نسكين أو ثلاثة.
فقولها رضي الله عنها: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم)]، أو لحرمه حين أحرم وكلاهما صحيح، ولكن جمهور المحدثين يقولون: بضم الحاء وبعض اللغويين ينكرون على المحدثين ضم الحاء ويقولون: الصواب هو الكسر.
وعروة والقاسم يخبران عن عائشة أنها قالت: [(طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام)]، الذريرة: اسم قارورة أو كأس كان يوضع فيه الطيب يأتي من الهند، واسم ذريرة كأنها كلمة هندية معربة، والمعنى طيبته في حال حله وفي حال إحرامه، أي: قبل أن يحرم.
قال: [وقال عروة: (سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حرمه؟ قالت: بأطيب الطيب)]، وهو المسك.
[وقالت عائشة: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم)]، وهذا لفظ صريح أن الطيب كان قبل الإحرام، ويذكر أنه في البدن لا في الثوب.
قال: [وعن عائشة قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض -يعني: قبل أن يطوف طواف الإفاضة- بأطيب ما وجدت).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم)]، والوبيص الذي هو البريق واللمعان في مفرق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يسرح شعره من منتصف رأسه ويطرح الأيمن على الأيمن والأيسر على الأيسر، طبعاً لو عملها واحد الآن بنية الاقتداء لكان مأجوراً على ذلك، لكن نريد منك أن تلبس العباءة مثل ما كان يلبسها النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان يرى مفرق رأسه؛ لأنه كان محرماً، والمحرم لا يلبس طاقية ولا قلنسوة ولا شيئاً من هذا، فحيث أنه يفرق شعره ويكثفه يلبس أيضاً عمامة مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، كيف أنت تقتدي به في شيء ولا تقتدي به في الأشياء الأخرى؟ لكي تأتي البنات وتجلس بجانبه وتقول: هذا شعره ناعم، شعره أسود.
شعرك هذا يمكن أن تشتعل فيه نار تأكلك وتأكل شعرك، ووقتها ستغطي رأسك مكرهاً، لا بنية الاقتداء وإنما بنية أنك تخفي الحرق، فالأحسن لك أن تستقيم من الآن، وتصحح نيتك، وتصلح عملك على منهاج النبي عليه الصلاة والسلام.