[المحرفة في أسماء الله وصفاته بين التحريف والتأويل]
قال: (أهل السنة والجماعة إيمانهم بأسماء الله تعالى وصفاته إنما يخلو من هذه المعايب الأربع التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل)، فهم وسط في أسماء الله عز وجل وصفاته بين المعطلة والمشبهة.
وتغيير المعنى وتحريفه في أسماء الله وصفاته يسميه القائلون به تأويلاً، لأن التأويل منه ما هو سائغ ومنه ما ليس بسائغ، بل منه ما هو محمود وجيد وعليه دليل، ومنه ما ليس بمحمود ولا جيد وليس عليه دليل.
وتسميتهم له تأويلاً إنما هو هروب من رد كلامهم، إذ لو سموه تحريفاً لنادوا على أنفسهم ببطلان كلامهم ورده، ولذلك سموه تأويلاً؛ لأن كلمة التأويل لها وقع على الأذن؛ لأن التأويل أيضاً بمعنى التفسير، وأما التحريف فلا يكون إلا باطلاً، ولذلك هربوا من قولهم: هذا تحريف، إلى قولهم: هذا تأويل، فكلمة التأويل تقبلها النفس، وتحتمل الصواب والخطأ، وهي في نظرهم تحتمل الصواب لا غير، ولذلك لجئوا إلى هذا المصطلح، وردوا اللفظ الآخر، وهو التحريف.
والتعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل خاصة في أسماء الله عز وجل وصفاته، لعدة وجوه: الوجه الأول: أن هذا اللفظ وهو التحريف هو الذي جاء به القرآن الكريم، قال الله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:٤٦]، قال الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله: أي: يتأولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل قصداً منهم وافتراء.
والتحريف لا يطلق إلا على الأمور الباطلة، وصرف النص عن ظاهره إلى غير مراد الله عز وجل، وأما التأويل فمنه ما يكون على مراد الله، ومنه ما لا يكون على مراد الله عز وجل.
والذين تعرضوا للتأويل والتحريف في صفات الله عز وجل، الأولى أن يطلق عليهم: محرفون، ولا يطلق عليهم مؤولون ولا متأولون؛ لأن هذا اللفظ والمصطلح إنما ورد في كتاب الله عز وجل في بني إسرائيل وهم اليهود، قال تعالى: ((مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ))، أي: يؤولونه ويصرفونه على غير مراد الله عز وجل.
الوجه الثاني: أن المؤول بغير دليل محرف، والأولى به أن يسمى محرفاً لا مؤولاً؛ لأن الذين انحرفوا بأسماء الله وصفاته عن منهج أهل السنة والجماعة يسمون محرفين؛ لأنهم انحرفوا عن المنهج الحق وصراط الله المستقيم، وهذا من العدل، ومن وضع النقاط على الحروف.
الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، ويجب البعد عنه والتنفير منه، وأما إذا استند إلى دليل فهو صحيح مقبول، وإطلاق التحريف أبلغ تنفيراً من التأويل، فلو قلت لرجل تأول بغير دليل: إنك محرف ومبدل ومغير لكان أبلغ من قولك: إنك متأول؛ لأن التأويل منه ما هو صحيح مقبول مستند إلى دليل، وأما التحريف: فلا يقبله أحد، بل ينفر الإنسان منه.
وإذا كان كذلك فإن وصف طريق من خالف طريقة السلف بالتحريف أولى من وصفها بالتأويل.
الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذموماً كله، بخلاف التحريف، فالتحريف كله مذموم تأباه النفوس الطيبة التي جبلت على فطرتها السليمة، وأما التأويل فليس بمذموم كله، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق ابن عباس رضي الله عنهما: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).
والتأويل هو التفسير، ولذلك جاء في رواية البخاري صريحاً: (وعلمه الكتاب) أي: القرآن الكريم.
وقد دل هذا أن التأويل في الرواية الأولى مقصود به تأويل الكتاب، أي: تفسير الكتاب.
وقال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:٧].
وعلى قراءة من أوجب الوقوف على العلم يكون المعنى: أن العلماء إنما عرفوا تأويل المشتبهات، والآية فيها خلاف، هل يجب الوقف على لفظ الجلالة {َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:٧]؟ فمنهم من يقف على قوله: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ))، ثم يقرأ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:٧].
وهناك من يرى وجوب الوقف على العلم، أي: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ))، ويقولون: إن الله تعالى لم يخاطبنا بمهمل، وإنما خاطبنا بما يفهمه ولو بعض الناس، وهم العلماء، فيجب الوقوف على لفظ العلم، ويكون التقدير: أي: وأهل العلم يعلمون تأويل المشتبهات في الأسماء والصفات وغيرها، وأن الله عز وجل امتدح أهل العلم بأنهم يعلمون التأويل.