[شرح حديث: (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره)]
قال: [وحدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا المستمر بن الريان حدثنا أبو نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة يُرفع له بقدر غدره)].
أي: إذا كانت الغدرة عظيمة جداً يرفع له لواء عظيم جداً، فالزيادة في هذا الحديث تبيّن أن قدر الراية على قدر الغدر، فإذا كان الغدر عظيماً جداً ومضرته متعدية فسيكون اللواء عظيماً جداً والفضيحة أشد عظماً، وإذا كانت الغدرة بسيطة وسهلة ومن الممكن أن تتدارك، فإن اللواء يُرفع على قدر الغدرة.
تصور -مثلاً- أن راعياً يغش رعيته، أو أميراً يغش من تأمّر عليهم، أو خليفة يغش أمة بأسرها، فإنه سيكون لواءه أعظم لواء، فعندما تُبعث من القبور ترى لواءه في أرض المحشر، أعظم لواء يراه الناس من بعيد؛ وذلك لغدره الذي غدر به، ضيّع أمته، وضيّع دينه، فحينئذ يكون لواؤه أعظم لواء؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من راع يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل معهم الجنة) فإذا لم يكن بقدر المسئولية ولم يأنس من نفسه رشداً كما آنس يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٥]؛ لأنه آنس من نفسه رشداً وهو نبي، وذلك لما علم أنه لا أحد في هذا البلد يؤتمن على خزائن المال، ففرض عين عليه حينئذ أن يكون أميناً على خزائن المال، وهذه ليست تزكية للنفس، وإنما هي فرض عين عليه، ولا يصلح في هذا الموطن الهروب وليس من الورع في شيء، أما أن يعلم أنه ليس أهلاً لذلك ويطلب الإمارة أو الولاية أو السلطة ويغدر ويغش رعيته، فالأحرى أن يُفضح في الدنيا والآخرة.
قال: [(لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة)].
وليس هناك أعظم جرماً من رجل استرعاه الله تعالى رعية ولم يحطهم بنصيحة ويعلمهم العلم الشرعي، ويقيمهم على الجادة، ويحضهم على السنن، وينهاهم عن البدع، وإذا علمهم وحضهم على السنن ونهاهم عن البدع فلا شك أنه قد أدى ما عليه، وأجره عند الله عز وجل.
قال الإمام: (اللواء: هو الراية العظيمة، لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعاً له).
فمعنى (لكل غادر لواء) أي: علامة يُشهر بها في الناس؛ لأن اللواء أعظم خاصية فيه الشهرة والاجتماع عند الرئيس، وقد كان هناك عرب تنصب الألوية في الأسواق المليئة بالناس لغدرة الغادر تشهره بذلك، فيسأل الناس: لمن رُفعت هذه الراية؟ فيقولون: لفلان.
إنه غدر في كذا وكذا.
فغالب رفع الراية عند العرب للغدر فيما يسمى بالجوار، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أجرنا من أجرت يا أم هانئ) والإجارة أو الجوار: هو كف الأذى عن المجار أياً كان مسلماً أو كافراً، وهذا أمر معروف عند العرب للمؤمن والكافر، وأنتم تعلمون أن أبا بكر الصديق دخل في جوار ثم خرج منه، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل في جوار وخرج منه، والمشركون دخلوا في جوار النبي عليه الصلاة والسلام وفي جوار أبي بكر وفي جوار أم هانئ.
وكان المجير يخرج إلى الكعبة وينادي في الناس: إن فلاناً دخل في جواري أو دخل في جوار فلان.
وهذا يعني: ألا يتعرض له أحد بإيذاء وإلا فهذا انتهاك لحرمة القبيلة كلها.
والغادر هو: الذي يواعد على أمر ولا يفي به.
وكذلك يقال: غدر يغدر -بالكسر-.