واختلف أهل العلم في معنى (لبيك) فقيل معناها: اتجاهي وقصدي إليك، يعني: أنا يا رب أقصدك بهذا النسك، أي: أتيت إليك قاصداً موجهاً ومولياً وجهي إليك.
(لبيك اللهم لبيك) أي: قصدتك يا رب بهذا النسك، مأخوذ من قولهم: داري تَلُبُّ دارك أي: تواجهها.
وقيل معناها: محبتي لك، مأخوذ من قولهم: امرأة لبة إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه.
وقيل معنى (لبيك اللهم) أي: إخلاصي إليك يا رب، مأخوذ من قولهم: حب لباب إذا كان خالصاً محضاً، ومن ذلك لب الطعام ولبابه، أي: قلبه وإخلاصه، ومحل الإخلاص هو القلب.
وقيل معناها: أنا مقيم على طاعتك وإجابتك، مأخوذ من قولهم: لب الرجل بالمكان وألب إذا أقام فيه.
فهذا الرجل الذي أراد النسك قائم من أول الإحرام حتى يتحلل على طاعة الله عز وجل، ولذلك ينهى المحرم عن التلبس بالمعاصي؛ لأنه القائل: لبيك اللهم لبيك، يعني: أنا مقيم على طاعتك، فالذي يقيم على الطاعة كيف تأتي منه المعصية وكيف يتلبس بالمعصية؟ وهو الذي وعد ربه بأنه قائم على طاعته، يعني: لا يأتي إلا طاعة ولا يفعل إلا معروفاً، فكيف تأتي منه المعصية في حال تلبيته وإحرامه؟ وهذا يبين قوله عليه الصلاة والسلام:(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من حجه كيوم ولدته أمه)، والرفث والفسوق، إنما هما خروج عن حد التلبية، وخروج عن معنى التلبية.
والله تعالى يقول:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة:١٩٧]، الرفث: هو كل ما يتعلق بالكلام بين المرأة والرجل، فيما يتعلق بالجماع أو الفراش أو التلويح والتلميح بالخطبة وغير ذلك.
((وَلا فُسُوقَ))، يشمل المعاصي كبيرها وصغيرها.
((وَلا جِدَالَ))، أي: لا جدال في الباطل وبالباطل، أما الجدال بالتي هي أحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة وبيان الحق إلى الخلق فكل هذا مباح في الحج، والذي نهينا عنه إنما هو الجدال بالباطل، أن يكون الإنسان مخاصماً لحوحاً مجادلاً بعلم وبغير علم، فهذا بلا شك ليس أمراً ممدوحاً ولا محموداً عموماً، وهو أكثر ذماً في الحج وفي حال التلبس بالإحرام، ولذلك فإن جهلاء مكة يستغلون هذا النص فيؤجرون بيوتهم ومنازلهم ومساكنهم للحجاج والمعتمرين وهم وفد الله عز وجل، فيقول المؤجر: إن هذه الغرفة لمدة عشرة أيام بخمسين ألف ريال أو بثلاثين ألف ريال، يعني الليلة بثلاثة آلاف ريال، مع أن أهل العلم لهم كلام في غاية الجودة والنفاسة، لكن من ذا الذي يستطيع أن يجهر به فضلاً أن يطالب به، فأهل العلم لهم كلام أن بيوت مكة لا تؤجر للحجيج، والحجيج إنما يدخلون هذه البيوت ويسكنونها بغير أجر، لكن من ذا الذي يصنع هذا الآن؟! فالقصور تبنى حول الحرم وتظل طيلة العام فارغة لا أحد يدخلها، وإنما يكتفون بتأجيرها لشهرين في العام؛ شهر رمضان وشهر ذي الحجة، وهذه البيوت إنما تحصل ثمنها على مدار عامين أو ثلاثة فقط، والباقي بعد ذلك ربح فاحش وعظيم، تصور أن الواحد يشقى في أداء النسك عدة مرات، يشقى في الحصول على تأشيرة، ثم يشقى في دفع ثمن التأشيرة مع أنها مجاناً، لكنها أحياناً تصل إلى بضعة آلاف وهي تصرف مجاناً، ويطبع في جواز السفر هذه التأشيرة منحت مجاناً، وهو كذب، إنما الذي أخذ منك الجواز حتى رجع إليك، ما وقع هذا الجواز في يد أحد إلا وأخذ مالاً، ابتداءً من صاحب المكتب وانتهاءً بالقنصل، هذه لم تمنح مجاناً، وإنما منحت بالرشاوي في الأغلب الأعم، إلا أن يكون هناك إنسان له وجاهة أو عنده مصلحة أو غير ذلك، فإنها تمنح له على مضض وبشق الأنفس مجاناً.
ثم تشقى مرة ثانية في السفر، وتشقى بالشيكات المزعومة، وهي كضرائب الحدود والمكوس، ثم تشقى بعد ذلك هناك بأنك تفاجأ أن كل ما مضى شيء وأنك توفر لك مسكناً أقل من المتواضع شيء آخر، وإن كان هذا كل ما يملك من الدنيا، على اعتبار أنه وصل بيت الله الحرام، ويتفاجأ بأن الليل لو دخل عليه هو يريد النوم والاستراحة فلا يستطيعه من الضجيج والزحام القاتل الذي في الحرم بحيث لا يجد الشخص له مكاناً ليقف فيه، الواحد لا يجد له ثلاثين سنتيمتر في ثلاثين سنتيمتر يقف فيه، ولابد من النوم، وإذا كنت لا تستطيع أن تقف في الحرم فكيف ستنام؟! لابد من مكان تنام فيه، وإلا ستنام في الشارع، الواحد عندما يذهب إلى الحج يصرف دم قلبه، فيصرف ثلاثين أو أربعين ألف جنيه لكي يحج، وهذا من العسر الشديد والعراقيل التي وضعت أمام من أراد أن يؤدي منسك الحج لله عز وجل، فكلها رحلة فيها شقاء وعذاب وضنك وصعوبات متعاقبة ومتلاحقة، ولذلك هذا يشعرنا بعظمة قوله عليه الصلاة والسلام:(رجع من حجه كيوم ولدته أمه) لأن هذه هي الهدية الكبرى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:(فهلموا نستأنف العمل)، إذا كان قيمة الحج في أنك ترجع كيوم ولدتك أمك، فالإنسان بعد أداء هذا النسك يراجع نفسه، ويقف مع نفسه موقفاً جاداً في أقواله وأفعاله وحركاته ونياته وكل شيء يمكن أن يصدر منه مع نفسه مع ربه مع الآخرين، فيب