[باب حفظ اللسان للصائم]
قال المصنف رحمه الله: [باب حفظ اللسان للصائم].
ذكر ابن أبي شيبة وكذا عبد الرزاق في مصنفيهما باباً وهو: باب من رأى أن الغيبة تفطر، وباب آخر: باب من سب أو شتم أو رفث أو فسق أو جهل فلا صوم له.
أي: فلا صوم له ألبتة، وليس فلا صوم له كامل الثواب.
وهذه المسألة كانت عند السلف محل حساسية شديدة جداً، يعني: أن الصائم لا يرفث ولا يفسق ولا يجهل ولا يصخب ولا يسخر، وفي إحدى الروايات وهي شاذة وتصحيف: ولا يجهل، أي: لا يتكلم بكلام يجهل فيه ويسب الآخرين، فإن فعل فلا صيام له ألبتة، والراجح أن صيامه صحيح وهو مذهب أكثر العلماء مع قلة الثواب؛ لأن هذه المعاصي تؤثر على حصول ثواب هذا الصيام كاملاً.
كما ذهب كثير من أهل العلم -وخاصة في هذا الزمان- إلى أن الذي يفسق ويرفث في الحج لا حج له، وقد حججت مع شيخ من أكابر علماء المغرب، فكان إذا رأى رجلاً يشرب سيجارة يذهب إليه ويقول له: حجك باطل، وكان إذا سمع رجلاً يسب أو يجهل أو يصخب أو يصيح بكلام فاحش بذيء يذهب إليه ويقول له: حجك باطل، فقلت له: ولم تبطل هذا الحج؟ قال: لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإن حج فلا يرفث ولا يفسق ولا يصخب)، والله تعالى يقول: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:١٩٧]، فحمل النهي في الآية وفي الحديث على الفساد والبطلان.
يعني: لو حصل هذا الفسوق وهذا الرفث والجدال في الحج فإنه يبطل الحج.
هذا مذهب في غاية الشذوذ، والصواب: أن حجه صحيح ما دام قد استكمل الأركان والشروط، ولكن ثوابه محل نزاع، فلا شك أنه لا يستوي الذي التزم الكلام الطيب وابتعد عن الفاحش والبذيء والفسوق والجهالة وغيرها، مع الذي أتى بكل هذه المعاصي والمنكرات، لا يستويان عند الله عز وجل، وهذا هو الذي يستقيم مع مذهب السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.
قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رواية قال: (إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم)].
قوله: (فلا يرفث) الرفث هو أن يتكلم بكلام فاحش بذيء؛ ولذلك نفى النبي عليه الصلاة والسلام عن نفسه الفحش والتفحش؛ لأن هذا خلق ذميم، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تحلوا بمكارم الأخلاق، وتخلوا عن مساوئ الأخلاق، والفحش والرفث والفسوق والجهل، كل هذا استعاذ منه النبي عليه الصلاة والسلام، بل استعاذ منه جميع الأنبياء.
وقوله: (ولا يجهل) الجهل قريب من الرفث، وهو خلاف الحكمة، وخلاف الصواب من القول والفعل.
وقوله: (فإن امرؤ شاتمه) (شاتمه) أي: سبه.
وقوله: (أو قاتله) أي: دفعه أو ضربه.
وقوله: (فليقل: إني صائم، إني صائم) يقولها بصوت مسموع أو بصوت خافت، والأفضل أن يجمع بين الاثنين، لأن المرء لو أسمع الشاتم والساب الجاهل ذلك، فكأنه يقول له: ما يمنعني عنك إلا أني صائم، والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أمراني ألا أدفع مقاتلتك بمقاتلة، وألا أدفع شتمك بشتم، وإنما أمراني أن أصبر وأحتسب، وأقول: إني صائم.
وهذا الفعل والكلام الجميل يشهد له القرآن والسنة، بل يشهد له واقع الناس، تصور لو أن امرأً شتمك فصبرت عليه وسكت ودعوت له، فإنه لو كان ناراً مشتعلة لا بد وأنه سينطفئ؛ لأنك قابلت الإساءة بالإحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، ولو أنك دفعت شر الشرير بالخير والعفو والصفح لانقلب لك صديقاً حميماً، ولو دفعته بمثل ما بدأك به لاشتعلت الخصومة، حتى كادت أن تهلك الأرواح والأبدان.
قال النووي رحمه الله: (واعلم أن نهي الصائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصاً به، بل كل أحد مثله في أصل النهي).
يعني: ليس معنى ذلك أنك إذا كنت صائماً فلا يجوز لك أن ترفث ولا تفسق إلا بعد أن تفطر، لا، وهناك ناس في أثناء الصيام يجاهدون أنفسهم في النهار على مضض وأول ما يفطر ينطلق في الخصومة والسباب وغير ذلك، هذا غير صحيح، فهذا الرجل هل استفاد فعلاً من الصيام؟ لا؛ لأن الله تعالى حرم الفحش والفسوق والجدال والخصومة والمقاتلة على صائم وغير صائم، ولكن حرمة هذه المساوئ الأخلاقية في حق المسلم حال الصيام آكد، وإن كانت حرام في كل الأحوال.